أدب ما بعد الثورة: هل سنتخلّص من تكريس أدباء النظام؟

سألت صديقي: هل أكون ظالماً حين أُشبّه القاصّ الراحل عبد السلام العجيلي بـ "الحكواتي"، ومثله حنّا مينا ووليد إخلاصي؟ وكذلك حين أنعت فايز خضّور بـ "المتأدنس"، وأدونيس بـ "المتفذلك"، والماغوط بـ "المكرِّر"؟ فأجابني: لكنك ستتعرض لردود فعل عنيفة إذا ما طرحت ذلك أمام متابعيهم ومعجبيهم!

هذا ليس جواباً للسؤال، سؤالي كان هل أكون ظالماً أو مُتحاملاً إذا قلت ذلك؟ صمت صديقي ثم أجاب: نعم.. ربما.. لا أعرف صراحة!

جواب صديقي يُلخّص آراء غالبية "الجمهور" السوري: أجوبة مسايرة، غير دقيقة، تتّصف بالتخبّط والابتعاد عن الوضوح، وتفتقر لتبنّ رأيٍ صريح.

ولا شك بأن جوابه كان نابعاً من اطّلاع جزئي على نتاجات الأدباء الذين سردتُ أسماءهم، ورغم هذا لم يتجرّأ على الدفاع عن الجزء الذي يعرفه، بل ظلّ مُرتبكاً من السؤال، معتقداً اطّلاعي بشكل كامل على كتاباتهم ومؤلفاتهم، وامتلاكي بالتالي الحجّة والبرهان الداعمَين لرأيي الذي طرحت.

لا أنكر متابعتي الدائمة لمؤلفات أولئك الأدباء وما كانوا ينشرونه في الدّوريات المحلية والعربية، خلال السنوات التي سبقت الثورة، من باب حبّ المطالعة ومُواكبة الحالة الثقافية والأدبية السورية التي بدأت تنشط بشكل أكبر نسبياً، بعد إطلاق الأسد الابن "مسيرة التحديث والتطوير" التي أوهمنا من خلالها أن عصر قمع الحريات ولّى، وحلّ محلّه عصر الانفتاح الثقافي والسياسي و"المجتمع المدني".

نعم، كان عهداً جديداً للأدب والثقافة، مُختلفاً بالطبع عن عصر الأسد الأب الذي كان يُعاقب علناً كل من يتجرأ على كتابة كلمة واحدة، في قصة أو قصيدة أو مقالة، تمسّ النظام الحاكم أو إحدى مؤسساته، ولكن من عاصر مرحلة بشار ما قبل الثورة، يذكر جيداً بأن المستفيدين الحقيقيين من "الانفتاح" كانوا من مثقفي طائفة النظام أو مؤيديه من الطوائف الأخرى، ومحسوبين على تيار المعارضة الأدبية –إن صح التعبير-، بالإضافة إلى كتّاب وأدباء "المراكز الثقافية" و"اتحاد الكتّاب العرب" من البعثيين ومنتسبي أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية". أمّا البقية من المستقلين والمعارضين لنظام الأسدين، فأدركوا لاحقاً خديعة شعار إطلاق الحريات ومسيرة التطوير والتحديث لا سيما بعد حملة الاعتقالات التي أعقبت ربيع دمشق وإعلانها.

ربما سيُلاحظ البعض عدم ترابط السؤال السالف مع الموضوع المطروح، لكني قصدت من خلال سؤالي توضيح مدى تمكّن النظام من تسويق الأسماء للسيطرة على المشهد الأدبي في سوريا، لدرجة تصنيفنا لأدباء سوريا من المبدعين اللاحقين ضمن خانة (التأثّر بالشاعر الفلاني والروائي الفلاني والمسرحي العلتاني)، دون الاعتراف بإبداعاتهم الجديدة، التي تخطّت في أحايين كثيرة ما أنتجته تلك الفئة، التي صار انتقادها تجاوزاً لخطوط (تابوهات) الأدب الحمراء.

ثم أننا ربطنا، باللاشعور، احتمالية نيل جوائز الأدب العالمية كـ (نوبل) بأدونيس على سبيل المثال، دون التفكير بإمكانية طرح أسماء جديدة، لم يسعفها الحظ في تصدّر مشاهد الحياة الثقافية السورية، كما حصل لأدونيس، الذي استغلّ علاقته بالحزب السوري القومي الاجتماعي في مرحلة الخمسينات لنشر قصائده في مجلة (شعر) البيروتية الشهيرة آنذاك، وكذلك كان الماغوط، صديق أدونيس ونسيبه. تلك المجلة التي نشر فيها مؤسسو وكبار شعر الحداثة أشعارهم، كبدر شاكر السياب ويوسف الخال وأنسي الحاج وغيرهم..

لا شك بأن أدونيس أضاف ملامح جديدة لشعر التفعيلة لم تكن موجودة لدى من سبقه، لكنها كانت بنظر العديد من القرّاء عبارة عن "تعقيدات" لغوية مغرقة في الترميز يُراد منها الاختلاف والتميّز لا أكثر، ولم يغب عنها النفَس الطائفي، في بعض المطارح. وكذلك جاء محمد الماغوط ليطرح فنّاً جديداً على الساحة الأدبية، أطلق عليه "النثر"، اعتبره العديدون ثورة في الشعر العربي، رغم أنه لا يخلو من الحس الطائفي في بعض صوره، بينما عدّه البعض تطاولاً على القواعد الشعرية وأقانيمها. ومع ذلك احتل هذا الفن مكاناً له لدى شريحة واسعة من الشعراء العرب المحدّثين، لا سيما في سوريا ولبنان.

بالنسبة لأدونيس، فلم تتوقف المقالات والكتب التي تتناول سرقاته من شعراء غربيين وعرب، بدءاً من كتابه الأهم (الثابت والمتحول) من مؤلفات (بولس نويا) وانتهاءً بكتاب (ديوان البيت الواحد في الشعر العربي) من الشاعر الليبي محمد التليسي الذي نشر كتاباً يحمل العنوان ذاته منذ حوالي 30 عاماً.

أما الماغوط، فراح "يُكرّر" ويُعيد صياغة نصوصه بأشكال مختلفة في ديوانيه الأخيرين "شرق عدن غرب الله" و"البدوي الأحمر"، وكذلك في زاوية يوم الثلاثاء بصحيفة "تشرين" التي صار ينشر فيها ما يكتب من نصوص خلال السنوات الثلاث التي سبقت وفاته. إلا أن أهم ما يتعلّق بفن النثر الذي شاءت الحظوظ أن يتربع الماغوط على صدارته، فقد سبقه إليه ابن مدينته (سلمية) "إسماعيل العامود"، الذي صُورت حياته وشعره بفيلم وثائقي، بعنوان "مطموراً تحت غبار الآخرين"، للمخرج "علي سفر" ونص الكاتب "إبراهيم الجبين" عام 2008.

ما أود الإشارة إليه، رؤيتنا اليوم لأدباء سوريين في المَهاجر وهم يتسابقون لنشر قصصهم ورواياتهم وقصائدهم بعد انعتاقهم من رقابة نظام الأسد وطمسه لإبداعاتهم فيما مضى. فلا يمرّ يوم إلا ونسمع فيه، أو نقرأ، خبر طباعة رواية أو ديوان جديد، يشتمل على أجمل ما يتفتّق عندهم من فنون الأدب.. فهل نحن على موعد مع بزوغ أعلام أدبٍ مختلفٍ وحقيقي؟