آل الحيوان... فزاعات الوحشية واهتراء المشاريع البتراء

هناك الكثير من الصور لأسرة حافظ الأسد؛ مجتمعة في هيئات عدّة، بين أزمنة عدّة، بداية بوقت كان فيه الأب مُكتنزاً، إلى حدّ ما، بثياب رديئة الذوق، والأم ناحلة بتسريحة شعر شعثاء تُحاكي موضة السبعينات في أرياف سوريا والشرق الأوسط عموماً، وصولاً إلى حين أنهك المرض الأب، واستقرت أناقته على إمضاء أرقى، بينما نفخ التقدّم في العمر جسد المرأة، وزاد تجاعيد وجهها، وأودى بكثافة شعرها.

بينهما يقف دائماً أربعة أولاد وأختهم، هم حسب أعمارهم، بشرى، باسل، بشّار، ماهر، ومجد. ومن كان ينظر إلى هذه الصورة أو تلك قبل ثلاثين عاماً، ما كان ليتصور أنّ أكثر من نصف الموجودين فيها سيموتون.

لا توجد مفارقة ذات علاقة بلعنةٍ ما حاقت بالعائلة، والواقع أنّ السوريين يعتبرون ضمناً أنّ هذه العائلة هي اللعنة بحدّ ذاتها، وأنّها تأكل نفسها بنفسها عبر جيلين مُتلاحقين، لكنّها ظلت قادرة على إنتاج مستويات متفاقمة من الأذى العام مهما تقلّص حجمها، أو تعقّدت علاقاتها مع أفرعها وأصولها.

من الثلاثة الباقين أحياء حتى الآن، بشّار وماهر وأختهم الكبرى بشرى، حاولنا في عدد سابق من «عين المدنية» استعراض تحولات «الحيوان»، الاسم الدولي الأحدث لرئيس النظام السوري، السفّاح وراعي الإرهاب، بشّار الأسد. ونظنّ أنّ من المهم إلقاء بعض الضوء على تتمة العائلة، مع أنّه يجب التوضيح أنّ المتن التالي ليس قراءة حاسمة نفسياً وسياسياً لأسرة قد تكون أسوأ ما حدث لسوريا في تاريخها المعاصر، بقدرِ ما هو إعادة تركيب للمخيال السوري العام تجاهها.

الباب الأول: الملك والشاورما

سيكون الحديث مبتوراً إذا تطرّقنا لماهر وبشرى دون الاقتراب من شقيقيهما باسل ومجد، ولطالما كانت المعلومات عن الأخ الأصغر مجد (توفي في دمشق 12كانون الثاني 2009عن عمر 43 عاماً) محدودة، وتنحصر في كونه مُصاباً بمرض عضال غير معلن، حسب الرواية الرسمية، إلّا أنّ الشارع السوري كان على درجة قاطعة من اليقين أنه عانى من مرض عقلي أزاحه عن الواجهة السياسية والعسكرية للأسرة حتى وفاته.

والثابت أنّ المحتوى القِيمي والأخلاقي لأجندة التصنيف الاجتماعي السوري تعمّد إهماله في حسابات البغضاء الوطنية لأهله، وعامله على أنّه «مسكين وعالبركة»، مكتفياً ببعض التندّرات الباردة تجاه نهمه للشاروما، غير أنّ الأسرة والنظام كانا، على ما يبدو، يقاومان هذا التصنيف الشعبي: بمنحه صفة رسمية لم تكن موجودة في الواقع في هرمية «الدولة/ النظام»؛ فهو على وضعه الإدراكي المعتلّ بات في صفحته الخاصة على موقع ويكيبيديا «عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي»، أي أنّه أحد الذين يُناط بهم دستورياً -آنذاك- اختيار رئيس الجمهورية، وتقرير السياسات المالية والتنموية للدولة.

الباب الثاني: أسفل منتصف الهدف

الحديث عن باسل الأسد مُختلف جذرياً، على الأقل بالنسبة لمن عايشوا فترة صعوده الصاروخي، وانتشار ما تشبه حالة تعبئة عامة لحشره في أنوف السوريين كبطل مُخلّص من فساد وفوضى مكتومة، سيدفع من يعتبرها جزءاً من واقع حكم حافظ الأسد ثمناً هائلاً ومؤلماً قد يصل إلى حياته.

باسل كان في السرديّة الرسمية -والشعبية في جزء متواطئ مع الطغمة- فارساً محارباً لأخطاءٍ كارثية هبطت على سوريا من السماء، لأن حافظ الأسد كالعادة «لا يرتكب أي خطأ». ولا يتّسع المجال هنا لتفاصيل الخرافات التي حيكت حول شخصه، وفذاذته، ونبل أخلاقه -أين تعلمها؟ لا أحد يدري بالضبط- غير أنّ الثابت أن عملية تلميع منهجية واكبت ظهوره عبر متتالية ألقاب؛ تشاطر الإعلام الرسمي والميل العمومي لمتابعة قصص الأبطال في إسباغها على الشاب الذي بُترت سيرته بحادث سيارة على طريق مطار دمشق.

وعلى وقع حزن قسري، وحداد طويل وثقيل ومُكلف اقتصادياً، واكب السوريون تدفق النعوت التي ارتقى بعضها إلى مصاف النبوّة، وهي تنهال على جثّة «الفارس الذهبي» وجثة مشروع توريثه، ولم تفلح الخرافات التي سيقت في وصف حزن الأب المكلوم في تبريد شماتة -مكتومة طبعاً- بطاغية ضربه الله في أسفل منتصف الهدف.

الباب الثالث: لمن تركت البيجاما؟

ثمة مفارقة واكبت فترة عدم التعيين التي أعقبت موت باسل: الشارع على يقين أنّ وارثاً آخر من السلالة المشؤومة قادم في الطريق، لكنّ سياق فهم الشارع للأسد الأب دفع البعض إلى استنتاج أنّه سيكون ماهر، وليس بشار، لأن الشقيق الثالث أقرب إلى شخصية الأب والأخ البكر، ولأنّ بشار لم يكن اسماً موجوداً في التداول الشعبي.

إلّا أن الطاغية الأب كان سُلالياً بسيطاً كأيّ مُحدث نعمة -سلطوية هنا- فاختار بشار، ليكتفي ماهر بدور «اللبّيس» المرشح للعب دور عمه رفعت، في منطق التوقع العمومي لسيرة الأسرة، إذ باستثناء المخازي الشخصية والغراميات ذات الصيغة المُنحلة، التي اشتُهر بها رفعت المدمن على الكافيار قبل اختراع الفياغرا، فإنّ السوريين كانوا يتلمّسون تطابقاً في شخصيتي ماهر وعمّه سيّء الصيت، فهما ضابطان في ظلّ «أخ قائد» محصّنان من السؤال والتساؤل، وشهيران بالوحشية المُفرطة، وسرعان ما دمغ ماهر سيرته بمذبحة سجناء في صيدنايا كما أسلف عمه في تدمر.

ماهر كان أسوأ حظاً، فقد حاصرته الثورة في صورة المُدافع عن هزال حكم أخيه -وهذا تطابق آخر مع رفعت- غير أنّ الثورة حدث أضخم بما لا يقاس من انتفاضة الإخوان المسلمين في الثمانيات، مع أنّ الشبيحة حاولوا استحضار روح رفعت الممهورة بالمذابح المُنفلتة عبر حكاية «البيجاما»، التي ارتدّت لتصبح نقمة، تجعله أسير سخرية دائمة، حتى وإن كان رقمياً قد قتل أضعاف من قتلهم عمه.

هو مجرم حرب لا يقلّ وحشية عن عمّه، لكنه بلا مشروع انقلابي ظاهر، لأنّه نسخة باهتة من مشروع فاشل، ولأنّ اهتراء نظام بشار جعل ماهر مجرّد فزّاعة في بيجاما، تتلطى خلف ترسانة الإرهاب الإيرانية، وتحت حماية الطيران الروسي، في بيئة حكم لا تصلح حتى للانقلاب عليها.

الباب الرابع: يا مرآتي يا مرآتي

يُقال إنّ بشرى، الشقيقة الكبرى والوحيدة، هي الأكثر شرّاً بين إخوتها، ويُقال أيضاً إنّها كانت وراء قرار بشار في انتهاج القمع المكثف ضد أهل درعا، ومع أنّ هذه السردية هي جزء من منحى تبرئة بشار من المسؤولية الكاملة عن حرب الإبادة التي شنّها على السوريين، وهو أمر خاطىء جملة وتفصيلاً، لكنها لا تقع بعيداً عن مركز وعي آل الأسد عموماً تجاه السوريين.

تبدو بشرى، التي رمّلتها الثورة، أشبه بشخصية زوجة الأب خالصة الشر في سِيَر عتيقة عن الممالك الساقطة، حتى أنّ ثمة ما توصف بالتسريبات -غير المُحققة ولا المُدققة- تضع بشرى في موقع المعارضة لتوريث بشار بعد مقتل باسل، الذي كان العائق الأساس في زواجها من آصف شوكت، وهذه أيضاً مناورة تخلّصية لبشار من وصمة المشابهة مع شقيقته، التي سجنت وعذّبت الدكتور المشرف، والكاتب الحقيقي، لرسالة دكتوراه في الصيدلة نسبت إليها وأمعن الإعلام الرسميّ في شرح نتائجها العلمية المبهرة، والتي تركت أخويها، واحداً يتخبط في مأزقه الوجودي كحاكم، وآخر يحار في البحث عن مخرج من البيجاما، وفرّت إلى دبي حيث أقيمت حولها سرديات إضافية.

صحيح أن لبشرى موقعاً استثنائياً في سيرة الشرّ الأسدية، لكن هذا لم يمنحها موقعاً تنفيذياً يكسر طوق التخلف السلالي الذكوري عند «آل الحيوان»، فبقيت مُجرد هدف رخو لمن يريد طعن الأسرة في خاصرة غير موجودة.