«بيت الأرامل»
مشهدٌ من حياة النازحين الحلبيين في مدينة إدلب

أم علي - خاص عين المدينة

وجدت أم علي وابنتها أمينة (24 عاماً)، من حيّ الشعار بحلب، نفسيهما أرملتين بين ليلةٍ وضحاها، فقد استشهد الأب والزوج بصاروخٍ واحد. بكلماتٍ يجللها ألم فراق الزوج المعيل والأب الحنون قالت أمينة: «تمنيت أن أرافق جثمان زوجي إلى المقبرة، تمنيت أن أدفنه مرّةً واحدة!».

إثر تعرّض أحياء حلب الشرقية، نهاية العام 2016، لهجومٍ عنيفٍ من قوات النظام والطائرات الروسية والميليشيات الطائفية؛ أجبر الثوار على القبول بإخلاء الأحياء المحاصرة. فخرج 45 ألف مدنيٍّ برعايةٍ أممية، وكانت مدينة إدلب وريفها ملاذ الكثير من العائلات، بعد أن أمضى المئات أياماً عديدةً في العراء، لا سقف يؤويهم ولا ملجأ من موجة البرد التي تزامن اجتياحها البلاد مع أيام نزوحهم المريرة.

أجبرت أمينة وأطفالها الثلاثة على النزوح إلى مدينة إدلب مع أمها، الأرملة والأم لأربعة أولاد. لم يكن تأمين سكنٍ في مكانٍ ليس مألوفاً من قبل أمراً سهلاً. وبشقّ الأنفس استطاعت أم علي تأمين منزلٍ في «حارة الكسيح»، مكوّنٍ من غرفةٍ وملحقاتها، أطلق الجيران عليه اسم «بيت الأرامل» أو «بيت أيتام حلب». بالكاد تتسع الغرفة لساكنيها، وهي مظلمةٌ يتسلل إليها نور النهار من نافذةٍ صغيرة، بينما يمضون ليلتهم على ضوء شمعاتٍ وضعت على الأرض التي تكسو نصفها سجادةٌ رثةٌ أحضرها لهم الجيران مع بعض الأشياء البسيطة التي يمكن أن تشعرهم بشيءٍ من الدفء، والقليل من بطانيات الإغاثة التي بالكاد تشعر بوزنها.

تقول أم علي بلهجة العاجز: «لم يكن الخوف من قصف الطيران، والحصار الذي يضيق يوماً بعد يوم، سبباً لترك المكان الذي أبصرته عيوننا منذ الصغر. فقد تعودنا سماع صافرة الإنذار ومشاهدة القتلى والجرحى من المدنيين. تحلينا بالصبر لمواصلة الحياة المريرة رغم نزيفها، لكن الخوف من انتهاك الحرمات وكشف الأعراض والتشفي ممن خرج عن السيطرة امتلكني، وخصوصاً بعد فقد الزوج، وكما يقال «كسر ظهري».

رغم تنقل أم علي بين أحياء حلب هرباً من توغل النظام، والأرض تنحسر من تحت قدميها بالتدريج، تمسكت أثناء نزوحها ببعض الذكريات التي ورثتها عن زوجها، محاولةً الحفاظ على آخر ما تبقى. لكن الأوضاع المفروضة خلال النزوح منعتها حتى من حمل ملابس الصغار، ما دفعها مكرهةً إلى حرق الملابس وممتلكاتها الشخصية. تشارك ابنتها في الحديث وهي تذرف دموعاً تأبى التوقف: «احترق قلبي مرتين؛ الأولى لعدم رؤية زوجي والثانية عندما أجبرت على ترك بيتي والنزوح من حلب»، وراحت تكرّر: «تمنيت أن أدفن زوجي مثل كل الناس؛ تحول جسده إلى أشلاءٍ وكل يومٍ يعثر الجيران على جزءٍ منه بين الركام. راح وتركني مع ثلاثة أولاد، لا أعرف كيف سنعيش».

أما علي (19 عاماً) فيصف رحلة الخروج من حلب: «تعرّضنا لمواقف لا نحسد عليها من ضربٍ وشتائم، لكن أكثر ما آلمني هو أحد عناصر النظام الذي أخرج عضوه الذكري أمام عيون الجميع محاولاً استفزاز الرجال العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم وإذلالنا.. تمنيت حينها أن أقتله أو أن أقتل نفسي، لكن أمي حاولت تهدئتي بكلمات التسكين: «اصبر يا ابني، مو طالع بالإيد شي. أنت عندن ما بتسوى غير طلقة». ضربت جبيني بقوةٍ وأغلقت عيوني متحسراً من عجزٍ قيدني». أنهى حديثه وهو يفرك وجهه بيديه المتشنجتين: «لله وحده المشتكى». يبحث علي عن عملٍ في مدينةٍ يكاد ينعدم العمل فيها ليعيل أمه المفجوعة بوالده وإخوته الصغار وأخته الفاقدة للزوج والأم لثلاثة أطفال.

أما أم حسن الجاسم، التي نجت مع عائلتها من هول القصف، فلم تسلم من حرقة فراق ابنها الشاب الذي استشهد بالقصف على حيّ الزبدية بحلب. وفي البيت الذي آوى العائلة من جديدٍ في إدلب، ولم يكن سوى قبوٍ مظلمٍ عليك أن تشغّل المصابيح في وسط النهار لتبصر طريقك فيه، تقول بكلامٍ متقطع: «ليت العمر لم يمتد لأشاهد الباصات الخضر تقلنا خارج أرضنا.. ساعاتٌ طوالٌ من مسيرة سفرٍ لم تنقطع للحظةٍ فيها دموع الحزن وآهات الحسرة.. مع زوجٍ تأزم وضعه الصحيّ مع غياب علاج القلب، وابنةٍ تحتاج إلى الرعاية الخاصة لأنها ولدت «منغولية». خرجنا من حلب بلباسنا، والآن لا نعرف كيف سنمضي الأيام القادمة مع انعدام الدخل وصعوبة العثور على عملٍ يناسب زوجي. نواجه المجهول وننتظر الفرج والحلّ».

أم علي وأمينة وأم حسن أمهاتٌ يتوقعن في أيّ لحظةٍ تصاعد الأوجاع، لكن أملهنّ لا ينقطع بالعودة إلى المنزل الذي يحتضن الذكريات.