«الكشك» إلى إدلب و«الزنانة» إلى الشام

تعبيرية من الانترنت

شكلت إدلب الملجأ الأكبر لعدد كبير من النازحين والمهجرين قسريّاً من مختلف المناطق السورية، وبعد فترة من الزمن، كان لا بدّ من تسرب عادات أهل تلك المناطق وتأثّرها وتأثيرها في الجو المحيط.

تبدأ «دعاء»، سيدة دمشقية من داريا تقيم في إدلب، يومها بالردّ على رسائل الواتس آب، حول مكوّنات وطريقة صناعة بعض من الأطباق الدمشقية من قبل جاراتها، بعد أن تذوقن لأول مرة أطعمة لم تكن حاضرة في مطبخهن. «الفضول والفراغ هو ما يدفع السيدات لابتكار أطعمة جديدة»، تقول دعاء التي تحدثت عن استغراب الكثير من جاراتها من وعاء الكشك والمطحون جيداً (المصنوع من اللبن والبرغل المجفف)، قبل أن تبدأن بالتخمينات المضحكة عن مكونات هذه المركّب الغريب. لتبدأ مبتسمة بتعداد أصناف كثيرة متميزة لم تجدها في المطبخ الإدلبي، كـ «الكشك بططناج، الكشك منوش، الكشكية بالزيت، الكشك المطبّخ، فطائر الكشك». وكلها أكلات شعبية مشهورة في دمشق، مكوّنها الأساسي هو «الكشك» الذي تصنعه دعاء بيديها.

لجأ الكثير من أهالي دمشق المقيمين في إدلب للبحث عن التوابل والحشائش التي تميّز المطبخ الدمشقي، وتُعتبر مكوّناً أساسياً يدخل في مقادير عشرات الأطباق، وهذا ما دفع أبو هاشم لزراعة مساحة من الأرض خلف منزله بالكزبرة الخضراء (نوع من الحشائش المستخدمة في المطبخ الدمشقي)، ليتحول بيته –ما إن نبتت أوراقها الصغيرة-إلى ما يشبه دكاناً في سوق ساروجه، يؤمّه الدمشقيون للحصول على بعض من أوراق الكزبرة التي كان يزودهم بها أبو هاشم بـ «القطارة»، ليضيفوها إلى الفول المقلّى والشيش برك والملوخية.

وللمدلوقة حكاية أخرى، فبالرغم من الشبه الكبير بين مكوناتها في دمشق (كنافة شعيرية تُفرك يدوياً مع السمن والسكر على النار، ثم تغطّى بالقشطة وتزين بالفستق الحلبي) وبين المعجوقة في إدلب، وللكلمتين نفس البداية والنهاية في أحرفهما، إلّا أن الدمشقيين يحتفظون لأنفسهم بنكهتها الخاصة المرتبطة بـ طقوس «المشوار» نحو محلات «نبيل نفيسة»، وشوارع المدينة المزدحمة والحنين إليها. هكذا يروي لنا محمد الذي تفاجأ بغياب «المدلوقة» عن محلات الحلويات في إدلب، «كنت أسأل عنها في كل محل أدخله، دائما كانت الإجابة بالنفي، وأخيراً قدّم لي صاحب أحد المحلات المعجوقة على حد قوله، في إشارة منه أن الفارق فقط في التسمية»، محمد قال إن فارق الطعم كان كبيراً جدّاً، ولكنه اعتاد الطعم الجديد، وفي كل مرة كان يقول في نفسه «شو جاب لجاب، ويكمل طبق المعجوقة مبتسماً».

في المقابل؛ هناك أطباق عديدة لا يعرفها المطبخ الشامي، وتعتبر أكلات رئيسية في إدلب، مثل العدس بحامض وتتألف من العدس المطهو مع الحمض، والسفرجلية المكونة من قطع السفرجل مع دبس البندورة واللحم وتقدم إلى جانب طبق من الأرز. والزنانة (من أشهر الأكلات في محافظة إدلب وهي غير معروفة إطلاقا في دمشق). والزنانة أكلة موسمية قوامها زيت الزيتون الخارج تواً من المعصرة، ويصب على رغيف من الخبز ويرشّ عليها الكمون والرمان. «اسمها المميز هو ما دفعني للبحث عن مكوناتها، وبعد تذوقها باتت من الأطعمة التي رافقت مائدتي خلال موسم قطاف الزيتون»، تحكي دعاء التي قالت إن «الشوام» تعلّقوا بطعم الزيت في إدلب أيضاً، وزاد حضوره في الأطعمة من نكهتها ومذاقها.

وللمطبخين أكلات مشتركة، ولكن الكثير منها يختلف بطريقة الصنع. وما يميز المطبخ الإدلبي عن الشامي هو النهكة الحارة «الأكل بدّو شطة... وبدونا مالو طعمة» يقول أبو حسن من مدينة إدلب. ويتابع مسترسلاً «الفليفلة الحمرا الحدّة لازم تكون حاضرة مع كل طبخة.. منموّنها كل سنة متل الزيتون والزيت، وهيي صنف أساسي بكل بيت». ويتجلى الاختلاف بين المطبخين الدمشقي والإدلبي باختلاف طريقة الطهو، واستخدام المكونات «فالطعام الإدلبي أكثر دسماً، ويعتمد على استخدام التوابل المتنوعة وبكثرة، وهو أقرب ما يكون للطريقة الحلبية في الطبخ. في الوقت الذي يعتمد المطبخ الدمشقي على الخضراوات واللبن المطبوخ في الكثير من مكونات أطعمته، ويقلل من التوابل للحفاظ على النكهة الحقيقية للأطعمة»، على حد قول أم عبد الرحمن من (داريا).

«لم يعُد الطعام سفيراً لقلب الرجل فقط، بل بات سفيراً لبناء العلاقات الاجتماعية»، تبتسم دعاء التي صنعت منذ أيام طبقاً من الكبة السفرجلية، وحدها دون معونة من جاراتها (الإدلبيات)، بعد أن اكتسبت منهن طريقة صنعها. لم تعد دعاء تشعر بالغربة.. أصبح لها جارات وأحاديث شيقة ومشتركة.. «صار لنا أهل في المكان» على حد قولها.