«إعادة الإعمار» والتطهير الاجتماعي في سوريا

مجلة  New Internationalist
26 تشرين الثاني
ترجمة مأمون حلبي

عرض نظام الأسد خطة تفصيلية لإعادة إعمار سوريا. لكن، وفقاً للمهندس المعماري هاني فاكهاني وزميلته سوسن أبو زين الدين، الذيّن التقاهما أليسيو بيرون، تسعى إعادة الإعمار هذه لتحقيق عملية تطهير اجتماعي. هاني وسوسن، اللذان يقطنان حالياً في لندن، من مؤسسي "سكن"، وهو مشروع اجتماعي من أجل تقديم سكن رخيص في سوريا. في السنوات الأولى للثورة السورية وصفا نفسيهما بالنشطاء.

أليسيو: لقد كتبتما مؤخراً أن الحكومة السورية قد شرعت بوضع يدها على أحياء سكنية في كثير من مناطق البلاد. هل يعني هذا أن إعادة إعمار سوريا ما بعد الحرب قد بدأت قبل أن تنتهي الحرب؟

هاني: تماماً. نحن لا نعرف كم سنة ستدوم الحرب، لكن النظام قد وضع إطاراً لإعادة الإعمار. فالأسد يحاول أن يُنمّي الانطباع بأنه يُعاد إعمار سوريا لأن ذلك علامة على النصر؛ عبر إعادة الإعمار يُعلنون للعالم أن الحرب قد انتهت.

أليسيو: لقد قلتما أن خراب سوريا يمكن أن يُفهم فقط من خلال النظر إلى التدمير وإعادة الإعمار كوجه واحد. لماذا؟

سوسن: لأنه عند الحديث عن خراب سوريا، يُفكّر الناس عادة بالمباني المدمرة، لكن هناك ما هو أكثر من هذا بكثير. فإن تفحصنا المناطق التي دُمِّرت، سنجد أن غالبيتها الساحقة مناطق سابقة للمعارضة. في البداية، دُمِّرت هذه المناطق أثناء الحرب، وهُجِّر سُكانها قسرياً، والآن تضمن إعادة الإعمار عدم عودة السكان لأن الدولة تبني بيوتاً لا يستطيعون دفع تكاليفها هناك؛ نسمي هذه العملية "إبادة عمران" سوريا (urbicide). الجينوسايد هي عملية القتل العمد لجماعة ذات هوية معينة. الأربِيسايد هو فعل هذا الأمر بحق المدينة كعمران. في سوريا، يستخدم النظام تخطيط المدن كسلاح يهدف لهندسة التغيير الديموغرافي و"تطهير" جماعات معينة.

هاني: التدمير وإعادة الأعمار يؤديان إلى نفس الهدف السياسي. لقد كان التدمير بداية أداة عسكرية استُخدِمت لطرد جماعات بعينها لأنها كانت مصدر تهديد للنظام. وتأتي الآن عملية بناء جديدة لترسّخ هذا التهديد.

آليسيو: أي مناطق وجماعات هي المستهدفة؟

هاني: بالدرجة الأولى مناطق المعارضة والعشوائيات. العشوائيات في سوريا ليست أزقة متداعية. فهي مباني إسمنتية مبنية على أراضي عامة، أو أراضي خاصة غير مرخصة؛ هذه العشوائيات هي مأوى لـ 50 % من السوريين.

سوسن: وهذه المناطق المستهدفة تمتد أيضاً عبر خطوط طائفية وهويات دينية. في حمص، تم تسوية أحياء المعارضة السُنيّة بالأرض، بينما تم الإبقاء بدرجة كبيرة على الأحياء العلوية. لماذا؟ لأنهم كانوا موالين للنظام. لكن من المضلل جعل الأمور أسود وأبيض إلى الحد الأقصى، فلم يكن ثمة وجود لمنطقة موالية أو معارضة للنظام بنسبة 100%، وكان النظام يحاول حتى قبل الحرب أن يتخلص من العشوائيات. لكن، قطعاً، ثمة استراتيجية خلف ذلك.

أليسيو: كيف يمكن لهذه الاستراتيجية أن تُثمر بالنسبة إلى النظام؟ هل بالإمكان أن تُعطوا مثالاً؟

هاني: حتى الآن، مشروع "ماروتا سيتي" في منطقة بساتين الرازي في دمشق هو الوحيد في مرحلة البناء، وهو يكشف عن مخططات الحكومة بالنسبة إلى إعادة الإعمار. وقد تم تخصيص مناطق أخرى لإعادة إعمارها، لكن عملية البناء لم تبدأ بعد. كانت بساتين الرازي منطقة تقطنها الطبقات الدنيا، وارتبطت بدرجة كبيرة بالاضطرابات الأولى للثورة، لكنها أبداً لم تسقط بشكل كلي في يد المعارضة. لذا لم تُدمّر أثناء الحرب، إنما تم هدمها لاحقاً. ماروتا سيتي مشروع ضخم، فهو يغطي مساحة حوالي 215 هكتار، وهذا ما يعادل مساحة 250 ملعب كرة قدم. وسيضم في جنباته 232 برجاً زجاجياً بارتفاعات شاهقة، وهذا ليس بالمشهد المألوف في سوريا، وسيحتوي المشروع على مزيج من الخدمات الحكومية والسكن المترف. تبدو ماروتا سيتي مثل أي مدينة حديثة تفتقر للهوية.

سوسن: أراد الأسد أن يجذب الرساميل الخاصة. إن تم التركيز على السكن الاجتماعي لأكبر قدر ممكن من الناس -كما هو منتظر من مشاريع ما بعد النزاعات- فلن يتم جذب أي أموال خاصة. فالمستثمرون العقاريون يريدون أن يلمحوا فرصة لجني الأموال؛ من هنا تتولد ناطحات السحاب الحديثة.

آليسيو: كيف أُمكن طرد السكان وتركهم خارج مناطقهم؟

سوسن: عشرات الآلاف الذين كانوا فيما مضى يعيشون هناك هم مُبعدون ومتفرقون، وستضمن الأسعار الحالية عدم عودتهم. كان يعيش هناك قرابة 60 ألف شخص، معظمهم من أبناء الطبقات الدنيا، لكن تكلفة المتر المربع الواحد من البيوت الجديدة ستصل لقرابة 6000 دولار. في البداية، أصدر النظام إشعاراً يطلب من الجميع مغادرة ممتلكاتهم العقارية. أُعطي الجميع شهراً واحداً -ثم تم تمديد المهلة إلى سنة واحدة- للمطالبة بحقوق الملكية، ووعدت السلطات أنه سيتم تعويض الجميع. الناس الذين كان لديهم حقوقاً رسمية تلقوا أسهماً تعويضية في المشروع وسكناً بديلاً، وعُرِض على أولئك الذين لم يكن لديهم حقوقاً رسمية بدل إيجار تعويضي لمدة سنتين. واعتبر قسم آخر من السكان غير مؤهلين للتعويض وفقدوا حقوق الملكية. لكن حتى بالنسبة إلى الناس المحظوظين الذين تلقوا أسهماً وسكناً بديلاً، كان من المفترض أن تُسلّم البيوت الجديدة عام 2016. نحن الآن في 2019 ولم يتم بناء أي مسكن بديل حتى الآن، والسلطات حتى لم تستقر على الموقع المخصص للسكن البديل. وانتهى الأمر بالكثير من الناس إلى بيع أسهمهم ليتمكنوا من دفع إيجارات بيوتهم ريثما يتم تجهيز السكن البديل. في غضون ذلك، وقّعت الحكومة عقوداً بقيمة ملايين الدولارات مع المستثمرين.

هاني: من المهم أن نتذكر أننا وسط نزاع. فكثير من الناس قد اختفوا، أو هم معتقلون أو مهجرون، وكثيرون هم لاجئون خارج البلاد. القلق على السلامة الشخصية يتملك الكثير من الناس، الذين يخشون الإفصاح أنهم كانوا يعيشون في مناطق المعارضة وأنهم لاجئون خارج البلاد. وعندما تُعطي شهراً واحداً ليطالبوا بممتلكاتهم العقارية، فإنك فعلياً تحاول نزع ممتلكاتهم منهم باسم القانون، أليس كذلك؟

أليسيو: متى بدأت هذه العملية وإلى أين وصلت؟

سوسن: كانت الخطوة الأولى هي المرسوم 66، الذي يتيح هدم وإعادة تطوير العشوائيات السكنية وتقديم الأساس القانوني لإعادة الإعمار. صدر هذا المرسوم عام 2012. إن وضعنا الأمور في نطاقها الصحيح نلاحظ أن الاضطرابات السياسية قد بدأت عام 2011، أي أن المرسوم صدر بعد سنة واحدة من اندلاع الثورة. تفكير النظام الاستراتيجي سبق بمرحلة زمنية كبيرة كل الخراب الذي كان سيحدث.

هاني: من ناحية أخرى، تم إقرار القانون رقم 10 -الذي يوسع نطاق المرسوم 66- في أواخر عام 2018، والأمور تتحرك ببطء. تم تخصيص عدد قليل جداً من المناطق ضمن عملية إعادة الإعمار، لكن يجدر الملاحظة أن هذه المناطق كبيرة جداً. فقط في دمشق، تم تخصيص ما يقرب من 13 % من المدينة لإعادة الإعمار

آليسيو: ما الذي يريد النظام تحقيقه؟

هاني: يقول النظام أن خطته هي حل لمناطق السكن العشوائي. لكن في عام 2017 قال بشار الأسد نفسه عن الحرب: "خسرنا خيرة شبابنا وبنانا التحتية، لكننا كسبنا مجتمعاً أكثر عافية وتجانساً". بالنسبة إلى النظام، فإن هدف الحرب هو مجتمع متجانس موالٍ للأسد، يسوده رأي سياسي واحد فقط. ومن أجل هذا الهدف يمكن أن يستخدموا كل الوسائل التي بحوزتهم: إحدى هذه الوسائل البيئة المدينية. لنتأمل التدمير الحاصل بين 2012 و2015؛ استهدف النظام المستشفيات والمساكن والمخابز، واستخدم أسلحة غير دقيقة كالبراميل المتفجرة. حاصر المدن ليقطع الطعام والإمدادات الصحية... كل شيء ليجعل الحياة مستحيلة في تلك المناطق. السبب الوحيد الذي يمكن أن نفكر فيه هو أن النظام كان يحاول إفراغ تلك الأماكن، وإجبار الناس على الهرب.

لولا ذلك، ما كان النظام ليستهدف المستشفيات والمخابز، وما كان له أن يستخدم البراميل المتفجرة. كانت توجد حتى تقارير تفيد أن النظام في بعض المناطق قام بهدم متعمد لمئات من البيوت في مناطق المعارضة بعد أن يُسيطر على مدينة من المدن. عند نقطة كهذه لا يمكن للمرء إلا أن يقول أن الأمر ليس عشوائياً.

سوسن: تجري عملية إعادة الأعمار الآن بشكل انتقائي. يرتبط الأمر بمن الذي يجب أن يُعاقب ومن الذي يجب أن يُكافئ، فعملية إعادة الإعمار لا تنفع الفقراء والمستضعفين والضحايا، إنها تصب في مصلحة المستثمرين من محاسيب النظام، الذين يتربحون من عمليات إعادة التطوير ذات الطابع النيوليبرالي