- Home
- مقالات
- رادار المدينة
يوماً ما في داريا.. المعارك الكبرى والحصار الطويل حتى الإخلاء
تجاوزت الساعة الثامنة مساء، عندما كنت أمشي مع أحد الأصدقاء في الشوارع المعتمة لداريا. لم تكن الكهرباء قد قطعت عن المدينة بعد، ولكن حالة الخوف والتوجس التي سيطرت على الناس جعلتهم يطفئون الأنوار، فجيش النظام احتل المنطقة الشرقية، وقناصاته التي نشرها على الأماكن العالية من الكورنيش القديم شلت الحركة في المدينة، بعد أن قتلت العديد من المدنيين.
بين منتصف العام 2012 وحتى الثامن من تشرين الثاني في ذلك العام، تاريخ بدء الحملة العسكرية على داريا، كانت المدينة تعجّ بالمقاتلين، من أبنائها ومن المناطق القريبة والبعيدة، المتمركزين في أماكن متاخمة لمطار المزة العسكري. سرعان ما كان يغادر النظام بعد تمشيط عدد من الأحياء وقتل واعتقال العشرات. هذه المرة كان دخوله مغايراً، فاحتلت قواته منطقة (مشرق) وأقامت السواتر الترابية في منطقة الفرن الآلي على الكورنيش القديم، وأجبرت طلقات القناصين الأهالي على إغلاق محالهم التجارية والمكوث في البيوت.
توقفت إحدى السيارات التابعة للثوار إلى جانبي، وفي محادثة لم تستمر سوى دقائق، قال لي فيها صديقي المقاتل إلى يمين السائق "الليلة بإذن الله سيكون الشغل"، وبدا واضحاً أن ساعة المعركة المرتقبة قد حانت. هرولت بسرعة كبيرة لإحضار الكاميرا، بينما كانت سيارة صديقي تغيب في الظلام الدامس.
بعد أن أحضرت الكاميرا أكملت جولتي باتجاه منطقة قريبة من المكان الذي سيشهد هجمات الثوار. على الطريق كانت همسات مقاتلينا مسموعة وسط الظلام؛ العديد منهم تجمعوا ضمن حلقات صغيرة على مداخل الأحياء وفي زوايا الأزقة؛ كان جميع الشبان المجهَّزين بأسلحة خفيفة لا تتعدى بندقيات الكلاشينكوف وبعض رشاشات بي كي سي وقواذف آر بي جي- متأهبين للانقضاض على قوات النظام في أي لحظة؛ وهذا ما جرى بالفعل، فقد أبيدت قوات النظام بعناصرها ودباباتها في المعركة التي دامت طوال الليل. عملت وقتها في تصوير مشاهد من المعركة. والعجيب أن معظم المقاتلين الذين التقطت لهم الصور، أو أجريت معهم مقابلات خلال المعركة بل وحتى أثناء الأشهر التالية، إما استشهدوا أو أصيبوا بعد عملية التصوير، لدرجة أن البعض كان يرفض التصوير خوفاً من هذا الفأل السيء. وبعد عدة أشهر تعرضت الكاميرا للتلف، وفقدت عشرات التسجيلات المصورة التي وثقت بعض مشاهد المعارك الأولى والعديد من الشهداء.
عقب المعركة بدأت التحضيرات السريعة لمواجهة ردة فعل النظام: أقيمت سواتر ترابية متواضعة على حدود المدينة، ودعمت النقاط التي يحتمل دخول النظام منها بالمقاتلين، واستعدت داريا لأكبر وأطول معركة بدأت مع نهاية تشرين الثاني.. خلال الأشهر الأولى للحملة غدت داريا أشبه بشعلة هائلة من اللهب؛ القصف لم يهدأ ليل نهار، وأخذ النظام بالضغط على عدة جبهات لاستنزاف الثوار؛ طال قصف الراجمات والمدفعية والمقاتلات الحربية جميع الأحياء المكتظة بالسكان، ما أجبرهم على النزوح إلى خارج المدينة، ليبقى قرابة 2 بالمائة من السكان الذين يتجاوز تعدادهم 300 ألف نسمة.
وفي أحد الأقبية المجهزة بتجهيزات بسيطة، كان "أبو علي" وعدد من رجال المدينة مع عائلاتهم يجلسون طوال الليل، وعند اشتداد القصف خلال النهار. كانت الصغيرة رانيا، الطفلة المدللة لأبو علي، لا تزال تحبو. أحبها الرجال كثيراً، وجعلوا من ملاعبتها تسليتهم المفضلة.. لعلع الصوت المريع لمقاتلة الميغ، فصرخ الأطفال وبكت رانيا لبكائهم؛ سعى الجميع لتهدئة أطفالهم، لكن القصف لم يهدأ في تلك الليلة التي أعقبت هجمات النظام على جبهة القرية في داريا، أحصيت حينها سقوط 500 قذيفة، إضافة لست غارات حربية، وعشرات الصواريخ الأرضية ليوم واحد.
في ساعات الصباح الأولى يهدأ القصف، فكان المدنيون يستغلون هذه الساعات لمغادرة المدينة، وهذا ما فعله أبو علي في أحد صباحات كانون الأول الباردة؛ خرج مع الفجر، لكنه عاد عند التاسعة صباحاً وهو في غاية الإرهاق، بينما امتلأت ثيابه بالدماء؛ دخل الرجل ومعه أطفاله، لكن الصغيرة رانيا لم تكن موجودة، وغابت الأم أيضاً. وكان قد حاول مغادرة المدينة منذ ساعات الفجر الأولى، لكن طلقات غادرة من أحد قناصي النظام أصابت السيارة، وكانت النتيجة المؤلمة تمزيق جسد الطفلة، وإصابة أمها بجروح خطيرة.
أمام الآلة العسكرية الهائلة لدى قوات النظام، لجأ الثوار إلى التفخيخ، بزرع العبوات الموجهة وغير الموجهة في طرق الإمداد والتنقل، لتفجر بدبابات النظام وعرباته المدرعة. كانت العبوات تُصنع محلياً من مخلفات القذائف التي لم تنفحر؛ ولقلة الخبرة لدى الثوار، لاسيما في بداية المعركة سقط شهداء أثناء عملية التصنيع. واعتمد المقاتلون في التفخيخ أيضاً على قذائف مدفعية الفوزديكا والصواريخ والألغام البحرية التي كانت تسقطها المقاتلات الحربية، وتعتبر هذه العملية خطرة للغاية، نظراً لتوغل المقاتلين داخل تحصينات النظام لتوصيل صاعق العبوة في طرفه بالمدخرة الكهربائية في طرف الثوار، وباستعمال أسلاك كهربائية طويلة، إذ يصعب مع ندرة التجهيزات تصنيع عبوات تفجر لا سلكياً.
من نافذة تطل على الكورنيش الجديد، كنت أرقب التحركات الواضحة أمامي في مطار المزة العسكري: مرت عدة دبابات على الطريق، ثم توقفتْ عند مدخل مبنى "الصيصي" الضخم، والذي يعد النقطة الوحيدة التي يتمركز داخلها النظام مقابل مطار المزة؛ كانت وظيفة الدبابات إيصال الذخيرة والطعام لعناصر النظام في المبنى، وهو ما أتاح لنا فرصة ممتازة لتحقيق انتصار ما..
"هل الجميع جاهز؟" يصيح "أبو عابد" قائد المجموعة التي أقاتل ضمن صفوفها؛ التصق مقاتلونا بالطلاقيات التي جهزوها في شرفات وجدران البناء ذي الطوابق الخمسة الذي نرابط فيه؛ "عند القتال عليك رش القليل من الماء على الطلاقية، حتى لا ينبعث الغبار أثناء إطلاق النار فينكشف مكانك" ينصح أبو عابد أحد مقاتليه، ثم ينشغل بالمراقبة.
طوال الليل قمنا بالتفخيخ، زرعنا العبوات الموجهة، لكن المفاجأة الكبرى كانت في منتصف الشارع العريض، حيث أخفينا صاروخ ميغ وقذيفتي فوزديكا موصولتين بعضهما ببعض.. أصبح هدير الدبابات التي تتجهز للعودة مسموعاً؛ كانت الخطة تفجير جميع الألغام عند مرور الدبابات في طريق العودة. "الآن فجّر" يصيح أبو عابد بصوت لاهث، أطبق صمت رهيب على الجميع لثانيتين أو ثلاث، ثم دوّت أصوات الانفجارات، وتصاعد دخان أسود كثيف من المجنزرات، وهذه العلامات كانت تدلنا على تفجيرها واحتراقها.
لم يتمكن الثوار من التصدي لهجمات النظام العنيفة طويلاً، لاسيما من طريق مدخل دمشق المار بالدوار ومنطقة التربة ثم ساحة شريدي، وسرعان ما سيطر النظام على هذه المنطقة الحساسة، وعلى جزء كبير من الكورنيش القديم وطريق داريا-المعضمية، وهنا وقعنا نحن المرابطين على جبهة الكورنيش الجديد المطلة على مطار المزة في الحصار الذي استمر لثلاثة أيام؛ ثم قررنا الانسحاب من النقاط في إحدى الليالي المظلمة: سار أكثر من ثلاثمائة مقاتل مخترقين عدة تحصينات للنظام باتجاه عمق داريا.. وبهذا تمكن النظام من السيطرة على جميع المناطق المشرفة على دمشق والمطار، وتوغل في وسط المدينة، في حين تمسك الثوار بما تبقى منها مع كامل بساتين المنطقة الغربية؛ وعند هذه الخطوط العريضة تجمدت خارطة القوى في المنطقة قرابة أربع سنوات.
ما بين بدء الحملة وانتهائها، شهدت داريا مئات المعارك ذات الطابع الدفاعي؛ ومع ازدياد عدد المعارك امتلك معظم مقاتلي المدينة خبرة لاتضاهى في هذا النوع من المعارك. لم يكن أحد يتراجع خطوة واحدة في أي معركة، حتى ولو تقدمت دبابات النظام؛ كان الجميع يتمركز في مكانه واضعاً أصبعه على الزناد، فمن المعلوم أن أي دبابة تتقدم تخفي خلفها مجموعة من الجنود المقتحمين الذين يغدون بين لحظة وأخرى فريسة سهلة للثوار، وهذه الطريقة تعتبر إحدى أبرز الوسائل الدفاعية التي تدرب عليها المقاتلون.
بعد عدة أشهر من القتال المستمر هدأت المعارك لبعض الوقت، و بين مطلع العام 2013 وحتى شهر نيسان في ذاك العام ، تمكن الثوار من تأسيس تحصينات قوية، تألفت من سواتر ترابية وأنفاق وخنادق ودشم؛ واتفقت الفصائل المقاتلة على توزيع نقاط الرباط في محيط المدينة بالكامل.
ولم يخلُ الأمر من بعض هجمات يشنها الثوار لتوسيع رقعة السيطرة، أو كسر الحصار الخانق الذي فرضه النظام منذ الأشهر الأولى؛ كانت معركة (لهيب داريا) التي انطلقت في آب 2015 أكبر المعارك الهجومية، حيث تمكن الثوار من السيطرة على مباني "الجمعيات" ذات الطوابق العالية التي تطل على مطار المزة. ومع بداية 2016 بدأت المرحلة الأخيرة من حملة داريا، بعد أن تمكن النظام من الفصل بين داريا ومعضمية الشام (دخلت في هدنة مع النظام بدءاً من العام 2014، موعد اختياري للبقاء فيها) التي كانت المتنفس وخط الإمداد الوحيد إلى داريا، وخاصة مع خسارة الأراضي الزراعية في منطقة "المغرب" ليحكم الحصار على 700 مقاتل تقريباً ومعهم عشرات المدنيين داخل ما تبقى من الأحياء المدمرة، والى حين الاتفاق على إخلاء المدينة آخر شهر آب في العام 2016.
وكالة الأناضول