- Home
- مقالات
- رادار المدينة
يوم من حياة وليد وهبة وعبد الله في «حضن الوطن»
دعوات النظام للسكان النازحين في مناطق خارجة عن سيطرته للعودة إلى "حضن الوطن" تتواصل، ويتبين يوماً بعد يوم للعائدين أن "الوطن" الذي وعدوا به لا يعدو كونه سجناً كبيراً يقتات العائدون إليه من الهتافات بحياة القائد أكثر مما يقتاتون من الأساسيات البديهية للحياة، وباتوا حائرين بين البقاء في البيت العائلي وسط أجواء من الذل، ينتظرون من السماء مخرجاً منه، وبين سلوك طريق النزوح المذلة مجدداً.
الثامنة صباحاً \ الميادين
يمرّ الشاب وليد بدراجته النارية أمام مدرسة ابتدائيةٍ في مدينة الميادين كانت كتيبةٌ من الجيش الحر قد حوّلتها أواخر عام 2012 إلى مقرّ عسكري لها بعد تحرير المدينة من قوات النظام. يسعى جاهداً لمقاومة رغبة جامحة اجتاحته للدخول إلى المدرسة لمشاهدة الجدار في باحتها الذي كان يضم أسماء الشهداء وبينهم اسم صديق طفولته وزميل دراسته الذي استشهد أثناء معارك فك الحصار عن أحياء ديرالزور عام 2013. يتركُ وليد المدرسة وهو يعرف أن الجدار قد طمس على أيدي جماعة النظام، ويتوجه إلى السوق المعروف سابقاً بشارع الجيش، ليقابل شخصاً وعده بوظيفةٍ حكومية في أحد المشاريع التي تموّلها "منظّمة أوروبيّة" لعلها تنقله من حالة العوز التي يعيشها.
يلخص وليد ما وصلت إليه حالة هذه المدينة المنكوبة بالقول "كل شي هِيْن كئيب..". فالميادين كغيرها من مدن وقرى "منطقة الشامية" في ريف ديرالزور الشرقي، تعرضت أثناء هجوم قوات النظام عليها مع داعميه الروس والإيرانيين لعملية تدمير واسعة. وشملت عمليات "التعفيش" كلّ منازل المدينة، و"كل" هنا ليست مبالغةً أو تعميماً، بل هي الحقيقة التي طاولت كل منازل المدينة أكانت للفقراء أو الأغنياء على حدّ سواء.
التاسعة صباحاً/ البوكمال
على بعد 85 كيلومتراً شرق الميادين يجلس "عبد الله" على ضفّة نهر الفرات في مدينة البوكمال مطيلاً النظر في المياه المتموّجة أمامه. قال بحسرة "لما كنت بالسجن كان كلشي بدّي ياه إني إقدر أطلع وآجي هون أقعد هالقعدة"، قبل أن يضيف بصوت مختنق: "هسّا ما قاعد أصدّق إنه صرت أحن لهذيك اللحظة.. للسجن!".
يشرح عبد الله أنّ حالة الانتظار داخل الزنزانة كانت أبشع ما واجهه خلال أعوام اعتقاله بسبب مشاركته في التظاهرات المناهضة للنظام. لكن حالة الانتظار هذه كانت الشيء الوحيد الذي كان يمنحه الصبر، ففكرة أفواج الثوار تفتح له ولرفاقِ معتقَله أبواب الزّنازين كانت "الحلم" الذي يُمنّي النّفس به ويعطيه نعمة الصبر.
يتابع عبد الله "كلما كنت أسمع صوت رصاص بعيد.. كنت أقول أَجَمْ..". بعد فترة بات يحلم بالخروج بصفقة تبادل توصله إلى البوكمال ليذهب إلى مدينته التي سمع بأنها باتت محرّرة، وليجلس في هذا المكان بالتحديد على ضفة الفرات ليلعن الأسد ونظامه بصوت عال تضجّ به مياه النهر. لكن هذا أيضاً لم يحدث!
خرج عبد الله في بدايات عام 2018 بحكمٍ قضائيّ ساهمَ فيه مبلغ مالي دفعَه ذووه، ليجد نفسه على متن حافلة متوجهة إلى شرق البلاد حاملاً بطاقةَ حكمِه التي باتت جوازَ عبورٍه إلى البوكمال. لكن قوات النظام كانت قد أحكمت سيطرتها على مدينة عبد الله بالتعاون مع ميليشيات إيرانية، فتلونت بآلاف الصور والأعلام والشعارات المستفزة له، ما جعله يشعر بضيق واختناق يفوقان ما كان يشعر به في زنزانته خلال فترة الاعتقال.
العاشرة صباحاً/ ديرالزور
في مدينة ديرالزور تنتظر "هبة" منذ نحو نصف ساعة امتلاء "الباص" بالطلبة، حتى تبدأ رحلتها من نقطة تجمّع الحافلات عند رئاسة الجامعة في حي القصور، إلى جامعة الفرات التي عادت إلى الدراسة فيها في العام الدراسي السابق. تقول هبة عن خيبة أملها إزاء ما وصلت إليه الأمور في مدينتها: "مناظر الحواجز والشبيحة شي اتعودت عليه.. نفس الشي هون وبالشام، بس الفرق إنو غَادِي كانت صورة الدير المحررة عاطيتنا أمل ببكرا".
والد هبة ليس من المتحمّسين كثيراً للثورة والجيش الحر، لكنه يرى الشرّ المطلق في نظام الأسد. لذلك لم تكن تسمع تذمّره كثيراً عندما بدأ ثوار الدير معارك التحرير، وحتى عندما اضطُرّ إلى النزوح مع عائلته إلى دمشق تاركاً وراءه مدينة مقسومة بين الثوار وقوات الأسد.
لكنّ ظهور داعش وما تبِعه من حصار خانقٍ على شطر المدينة الخاضع لسيطرة قوات النظام في حيّي "الجورة والقصور"، حوّلَ كل الأطراف إلى أهدافٍ لشتائمه. وبحسب المعادلة البسيطة التي لا يفتأ يرددها "لو ما الثورة ما طلعولنا الدواعش.. ولو مو الدواعش ما رجع النظام" يصبح الجميع بنظره متورِّطين في المأساة.
وقت الظهيرة/ الميادين
تعود "منى" ابنة "وليد" ذات الأعوام العشرة من مدرستها، وهي التي ولدت قبل قيام الثورة بعام ونصف عام. وبالإمكان القول أن خدّها الحِنطيّ وثّق تاريخ المدينة للسنوات القليلة الماضية، من علم الثورة مرسوماً عليه مع انطلاق التظاهرات السلمية فيها، مروراً بالدموع تنساب عليه أيام حملة براميل النظام التي استهدفتها بعد التحرير، إلى الخمار الذي غطّى وجهها إبان احتلال داعش وفرضه السواد حتى على الأطفال، وصولاً إلى التراب والغبار ومعاناة النزوح خلال رحلة الانتقال الشّاقة إلى ريف حلب الشرقي مع بدء النظام وحلفائه حملتهم للسيطرة عليها.
الميادين - Ruptly
يقول وليد: "كل ما أشوف وجهها أخاف أكون ظلمتها برجعتنا عالبلد". لكن ما الذي يمكن لوليد أن يفعله وقد استنزَفَ مدّخراته في بلدِ نزوحه، وأثقلَ على أخيه "اللّاجئ" في أوروبا والذي يقتسم معه مِنحةَ اللجوء الشهرية؟!. "مابي شغل بالباب ولا مساعدات.. والبيوت آجاراتها نار وحتى الخيمة ما تتهيّالنا.. وإذا بدك تطلع على أوروبا بدك تحط مبلغ الله ربّه.. وهِين عندنا بيت يسترنا أٌقل شي"
وما ساعدَ وليد في قرار العودةَ إلى الميادين، أنّ أكبرَ أبنائه الذكور لم يتجاوز السابعة وبالتالي لا تجنيد إجبارياً يخشاه. أما هو فقد انقضت "خدمته للعلم" قبل بداية الثورة، ورغم أن منزله المتواضع بطابق واحد لم تبق فيه قطعة أثاث، فإنه يبقى بالنهاية منزله الذي يستطيع إيواءه.
الثانية ظُهراً/ البوكمال
يُقفِل عبد الله راجعاً إلى منزله مارّاً بالسوق المقبي شِبه الفارغ، يقلّبُ بصره في وجوه الناس، وتتبادر إلى ذهنه أسئلة كثيرة، مثل كيف يعيش كلّ هؤلاء حالة الانتظار نفسها التي يعيشها منذ كان معتقلاً، وهم لا يعرفون ما ينتظرونه؟ أيامهم تمر بطيئة وثقيلة ولا يوجد ما يوحي بأن شيئا ما قد يتغيرً.
يدخلُ إلى المنزل مقبِّلاً رأس والدته التي تخلّتْ منذ أمد عن ولعها بإعداد وصفات طعام جديدة ومختلفة، لأن "جيش التعفيش" لم يبق لهم على أيّ من الحِلل أو الأجهزة التي كانت تستخدمها وتفاخر باقتنائها، واقتصر الأثاث الجديد على بعضِ "المواعين" المستعملة وموقدٍ صغير "بعينين" على قدر ما سمح به راتب زوجها التقاعدي. أما والده الستّينيّ فربما يكون الشخص الوحيد في البوكمال الذي يعرف ما ينتظر.. معجزة!
خسر والد عبد الله كلّ ما يملك باستثناء بيت العائلة الذي يعيشون فيه، ما جعله يزهد بالدنيا وما فيها، وينزِع أكثر نحو نظرةٍ صوفيّة للحياة. ولعل هذه الحالة دفعته الى رفض مغادرة المدينة مرة أخرى بعد رحلةِ نزوحٍ قصيرة أثناء عمليات سيطرة قوات الأسد على المنطقة، رغم محاولات عبد الله الكثيرة لإقناعه بتركها إلى مناطق الجيش الحر في الشمال، أو حتى منطقة الجزيرة حيث قوات (قسد).
- "يا ابني وين نروح.. كلها نفس الشي.. يعني انت تفكر غادي أحسن؟!"
- "أحسن أكيد.. يكفّي ما نشوف هالكلاب بوجهنا كل يوم.."
- "ما رح يضلّوا هَذُول.. ربك بس بدّه ما يخلّي منهم حدا.."
- "يا حجي علينا نتصرف بالشّايفينه.. خلّينا نبيع البيت ونطلع"
- "يا ابني إنتَ اطلع وروح.. آني وأمك ما نقدر نترك"
- "يعني شلون أتركّم وأروح.. هاذ مو حكي.. والله يا حجي مثل مو شايفك البلد كلها رح تتشيّع.. وهذول مو طالعين بعشرين سنة.."
- "وَلْ شتحكي إنت.. ربك ما يخلّيهم.. وإلّا يروحون.. بس قول يا الله واتوكل عليه"
ينقلُ عبد الله هذا الجدال مع والده من دون أنْ يُخفي ضيقَ صدره من الطّريقة التي يرى فيها والده الأمور، وهو لا يستطيع أن يجبره على المغادرة، كما لا يستطيع أن يتركه مع والدته بعمرهما المتقدم وحدهما.
العصر/ ديرالزور
عند انتهاء الدوام الجامعي يستقلّ الطلاب "حافلة نقل جامعي" إلى نقطة تجمع الباصات في حي القصور، ومنها يأخذون حافلة أخرى كلٌّ إلى حيّه، حيث ينفِق الطالب 200 ليرة يومياً كأجور مواصلات، وهو مبلغ، وإن بدا قليلاً، إلا أنه يشكّل عبئاً حقيقياً على كثير من العوائل التي تؤَمّن قوت يومها بشقّ الأنفس.
ورغم أن أحوال والد هبة المادية ليست جيدة كثيراً، إلا أنه يصرّ على أن تأخذَ سيارة أجرة في طريق عودتها من الجامعة مُنفقة "500 ليرة" يومياً، بسبب الأخبار التي تنتشر من حينٍ لآخرَ عن حوادث اختطافٍ في المدينة، كان آخرها لفتاة اختفت مدّة يومين قبل أن يتمّ العثور عليها جثة في أحد البيوت المدمّرة؛ وتقول الشائعةُ أنّ أحد الجنود كان يحاول "مصاحبتها" في الفترة التي سبقت اختفاءها.
لا تلتزم هبة بتعليمات والدها الصارمة عن عودتها مباشرة إلى المنزل، إذ اعتادت بعد انتهاء الدوام على التجوّل في سوق القصور مع بعض زميلاتها، لكنها في ذلك تحتاط كثيراً لتجنّب أي احتكاك بعناصر الأمن، أو المرور بحواجز الميليشيات.
"يعني شلون إذا عايش احتلال.. هِيجِذْ عايشين.. كرهانين بس ما حدا مفكر يحكي حتى.. الناس تعبت"
المساء/ الميادين
اليوم هو موعد الحوالة المالية التي يتلقّاها وليد من أخيه في ألمانيا كل بضعة شهور، لذلك سمح لنفسه بشراء "فروجة" لطعام الغداء. يدخل منزله فرِحاً بما جلب معه منادياً على زوجِته. لكنها هذه المرة لم تستقبله بابتسامتها التي فشلت سنون القهر في انتزاعها.
- "خير.. شنو صاير؟"
- "منى اليوم بالمدرسة سابّة عالنظام"
- "شلون؟؟.. منو قالِّك"
-"هِيَ قالتلي.. سامعِتها الآنسة ومفهمِتها تجي تقُلّلنا شنو صار؟"
- "وينها الحمارة؟"
- "طوّل بالك.. ما حدا سمعها إلا أم محمد.. بس لازم تقعد مع الولاد وتفهّمهم شنو يحكوا وشنو ما يحكوا.. انت يسمعولك أكثر مني"
كيف يمكن حقّاً أن تُقنع طفلاً تعود خلال سنوات الثورة على قول ما يشعر به وما يسمعه في منزله من دون مهادنة؟ تذكّر وليد القصة التي أخبره بها والده عن المصيرِ الأسود لرجلٍ قال ابنه للرّئيس العراقي الرّاحل صدام حسين عند سؤاله إيّاه "إنت تحبني؟!"؛ بأنّه يحبّه لكنّ والده يكرهه ويشتُمه كلّما ظهر على شاشة التلفاز!. ثم خطر له أنّ مبدأ التقيّة في المذهب الشّيعي الذي تحاول إيران فرضه في المنطقة قد يكون مفيداً الآن.
"ضَلّيت ساعة كاملة أحاوِل أفهِّمها شنو تقول بالمدرسة، بس تِعرفْ شنو أحقر شي؟! إنّه ما كنت أقدر أدحِّق بعيونها وأنا أقلّلها إكذبي" يضيف متنهّداً: "هاي البنت نفسها اللي كِنتْ آخذها معاي عالمظاهرات، وتسمعني لمّا أصَيّح عالناس الملثّمة: ليش تجبّن ليش تخاف.. خلّيك واضح شفّاف.. بدّك أسوأ من هالوضع؟!"
آخر الليل/ البوكمال
بالنسبة لعبد الله فَشِلّة الحارة التي تجتمع في منزل جارهم كلّ ليلة على لعبة الشدة (موراكو)، هي الشيء الوحيد الذي يُعِينه على تمرير الوقت هنا. الشلّة تتطرّق دائماً لآخر الأخبار في سهراتها تلك، إلّا أنّ تعليقاتهم عليها تكون "تهكّماً" في غالب الأحيان، فلا أحد هنا يؤمن أنّ نهايةً أخرى للتّاريخ ممكنةٌ غير انتصار الشرّ، وجلّ ما يطمحون له هو أنْ يتوسّع نفوذ المحتلّ الروسي على حساب الإيرانيين في البلاد.
الميليشيات الإيرانية في البوكمال
انتهت السهرة وغادر عبد الله إلى منزله متأخراً كعادته، وهي رفاهيّة لا يملِكها أكثرُ أبناء المدينة، إلّا أنّ قرب مكان السهرة من منزله يسمح له بما يحرّمه واقع التسيّب الأمني على كثير من أقرانه. دخل عبد الله منزله ليسمع صوت والده يصلّي كعادته في غرفة الضّيوف الفارغةِ إلّا من حصيرٍ اتّخذَه والدُه مُصلّى.
أشفَقَ عليه وهو يفكّر أن لا أحد في البلاد تضرّر مثل ما حصل لكبار السّن!، فهؤلاء أفنُوا عمرهم عَمَلاً بانتظار يوم يجنون فيه ثمرة تعبهم، بأبناء وأحفاد يحيطون بهم، ومنزلٍ مريح يقضون فيه أوقاتهم بسلام وسكينة.
"خنْقَتْنِي العَبْرة وآني أسمعُه يِدعي: يا رب فرجك القريب.. يقولها ويعيدها.. ويمكِن لأوّل مرّة أفهم شنو يظَلّ يقُلّي.. بواب الأرض كلها اتسكّرت جَد.. وما ظَلْ إلا باب السّما.. وما بإيدي إلا أقول وراه: يارب..