- Home
- مقالات
- رادار المدينة
يوم كان الوصول للحسكة حلماً لأبناء ديرالزور
قبل أيّام تواصلت مع «عبد الله» مجدّداً، لأعرف ما آلت إليه حال أسرته بعد أشهر عديدة من خروجهم من ديرالزور، فيقول إنّها تمكّنت من الدّخول إلى مدينة الحسكة بعد إجراء معاملة كفالة عن طريق قريبٍ لهم من الدرجة الأولى. وهم يواجهون اليوم مشاكلَ من نوعٍ آخر، أفرزتها سنواتٌ عديدةٌ من الحرب وتبادل السيطرة الذي شهدته محافظة ديرالزور، لكن قصة الأسبوعين اللذين قضاهما مع أهله في مخيم رجم صليبي تركت أثراً لن تمحيه بسهولة كل الشعارات والخطب. فعند ذلك الوقت ترسّخ (الآخر).
بعد رحلةٍ طويلةٍ استغرقت أربعة أيام في البادية، وصلت خمسون أسرةٍ من ريف ديرالزّور الشرقي إلى بادية رجم صليبي جنوب شرقي الحسكة، بينهم عبدالله (اسم مستعار)، عند الحاجز الذي أقامته وحداتٌ من قوّات «الأسايش» الكرديّة فوق تلّةٍ تُشرف على المكان. رفض العناصر إدخال الأُسر التي أنهكها الضياع والخوف، لعدم امتلاكهم تصاريح بالعبور أو الإقامة في الحسكة التي تدير ميليشياتٌ كرديّة معظم أرجائها.
كان أدعى للأمان أن تتقدّم النّساء دون الرّجال للتحدّث إلى العناصر: «دعونا نمرّ إلى أيّ مكانٍ فيه خيمةٌ وماءٌ وطعامٌ للأطفال؛ الشّمس حارقةٌ، ومعنا رضّعٌ عاشوا في البراري كل أيامهم القلال، إن سلمنا من حرّ الشمس والعجاج لاحقتنا العقارب، وربّما هُوجمنا من داعش الذي يُغير على المنطقة بين فينةٍ وأخرى». إلّا أنّ الجواب الدّائم الذي قد يأتي بعد أكثر من عشر مناشداتٍ تخالطها الدّموع، وبعربيّةٍ مكسرة: «ارجعن محل ما كنتِن». أمّا الرّجال فلا يجرؤون على التّقدّم نحو التلة، لأنّ صوت البنادق سيُصرّح فوراً بأنّها أخذت وضعيّة الإطلاق.
يقول عبد الله: «بعد يومٍ من الانتظار، تسرّب هاتفٌ جوّالٌ إلى المكان الذي بات سجناً صحراويّاً تُديره ميليشيا تتكلم بالدّيمقراطيّة والتّعدّديّة ودولة المساواة واحترام حقوق المرأة، بينما تَحتجز خمسين عائلةٍ ذنبها أنّها (الآخر)، لا هي تعطيهم تصاريح بالعبور إلى الحسكة، ولا هي تنقلهم إلى مخيّمٍ آمن». يتوقّف «عبدالله» ليشرح «أردت استبدال وصف الآخر بكلمةٍ أُخرى، أو أن أُبين لماذا هم الآخر علّني أجد سبباً يُفسّر احتجاز هؤلاء النّاس. لم أُفلح، فقلت هم الآخر».
«الشبكة لم تكن متوفّرة، فسجّل البعض رسائل نصّيّة قصيرة، وأرقام هواتف جوّالة لأقارب لهم في الحسكة أو بعض مدنها وقراها، يُحدّدون فيها مكانهم»، تضمّنت الرسائل الفحوى عينه (مازلنا أحياء في رجم صليبي، ربّما ليس إلى وقتٍ طويل، أخرجونا من هنا). نقل صاحب الجوال الرّسائل، ونقل معها دقائق معدودة من الطمأنينة، يليها قلقٌ وخوفٌ بلا حدود.
يقول عبد الله: «تواصلت مع العشرات؛ قياديّين وزعماء ومُمثّلين سياسيّين وصحافيّين من أجل أُسرتي العالقة، أحدهم كان قياديّاً، سألني عن الضامن بأن لا يكون أهلي من تنظيم الدّولة!». تتغيّر ملامح عبدالله حين يصل إلى هذه النّقطة من حكاية أهله «في الحقيقة حِرتُ كثيراً، كيف أردُّ عن أمّي التي تقارب السبعين هذه التّهمة!، كيف أردّها عن «أحمد» و«عبود» أولاد إخوتي الصّغيرين، أحسست بالقياديّ يشتمني بالقول يا بن الدّاعشيّة. تعثّر في فمي الكلام، فأجبته: «أستاذ عم قلّك هي أمي!».
الحوار أشبه ما يكون بالتّذلل إلى رجلٍ قوي، نفس التذلّل الذي كان يرافق حوارات السّوريين مع عناصر مخابرات دولة الأبد منذ عقود مضت. يُواصل عبد الله: «طلبت منه فقط إدخال الرّضيعين حتّى لا يموتا، فوعدني خيّراً إن بعثت له برسالةٍ أشرح فيها وضع أهلي وعملهم وتاريخهم، فضلاً عن الوضع الصّحي للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 أيام و4 سنوات، ولأمي المسنّة المريضة».
عشرات النّاس ضاقوا ذرعاً برسائل ذوي المُحتجزين المُلحّة، فتوقّفوا عن الرّد. أحد المسؤولين الذين تواصل «عبدالله» معهم يشغلُ منصباً سياسيّاً رفيعاً في هيكليّة سوريا الديمقراطيّة، من أولئك الذين نراهم على الشاشات كلّ يوم، يشرحون طبيعة العمل المؤسّسي في «مجلس سوريا الدّيمقراطيّة»، كمثالٍ ناضجٍ لما يجب أن تكون عليه «سوريا المستقبل»، قال المسؤول صراحةً، بعد أن تلقّى عشرات المناشدات، إنّه ما بمقدوره أن «يمون» على عنصرٍ صغيرٍ يدير حاجزاً لـ «الأسايش».
قبل أن ينقضي أسبوعان على احتجاز الأُسر الخمسين تقرّر إدخالهم على دفعات؛ فُرزت الأُسر العالقة إلى مخيّمات متفرّقة (قانا، الكرامة، تل أبيض ومبروكة) وغيرها. كانت أسرة «عبد الله» برفقة أُسرتين ممّن تقرّر السّماح بدخولهم كدفعة أولى إلى مخيّم «قانا» القريب من الحسكة، والذي لا يختلف كثيراً عن صورة البؤس التي تستحضرها كلمة «قانا» في مخيّلاتنا.
كان آخر ما ذكره لي عبد الله عن التجربة أنّ أحد الذين توطّدت علاقته بهم خلال هذه الرّحلة كان ينظر نحوهم لحظة العبور، وقد فاض دمعاً، لم ينبس الرّجل قط، كان كلاماً من دموع: «لماذا ينجو أولادكم ويموت ابني». لا سيّما أنّ التّجربة القاسية شهدت موت غير مُسنٍّ ممّن لم يحتملوا الجوع وارتفاع درجات الحرارة والغبار الكثيف.