- Home
- مقالات
- رادار المدينة
ولّى زمن الفرسانحين تعلق الحرب تبعاتها على أجساد السوريين
تقول إحدى الحكايات الشعبية: إنّ فارساً بلغه، وهو بعيدٌ عن بلدته، أنّ زوجته قد أصابها الجدري، وتشوه جسدها ووجهها، فظلّ يبكي طوال الليل حتى أصبح فاقداً بصره، وقاده أصحابه للمنزل ليتابع حياته تعتني به زوجته. لكنّ زوج غفران لم يصبْ بالعمى، ولعله لم يبكِ، حين قُصف منزلهم في إحدى قرى ريف حلب الشرقي منذ عام، واحترق كامل جسدها فيما عدا وجهها، بل عبر معها الحدود السورية التركية بسيارة الإسعاف، انتظر بعض الوقت، ولما تأكد أنّ غفران لن تستعيد نضارة جسدها، قال لها: «لم أعد أستطيع النظر إليكِ»، واختفى.
بحثت عنه غفران بكل الوسائل، لكن لا أخبار عنه. ومع شُحّ الأقرباء والمعارف فقدت الأملَ تدريجياً في الوصول إليه. وعلى الجانب الآخر من الحدود تكفلت والدة غفران ببقية العائلة، أخذت الأطفال الأربعة، وعبرت بهم إلى تركيا بوساطة أحد المهربين، لتلحق بابنتها هناك. وعلى أطراف إحدى المدن المترفة تعيش غفران في زريبةٍ مع أولادها الأربعة، زريبةٍ مغلقةٍ لا نوافذ فيها، تخنقها الرطوبة ورائحة العفونة المتغلغلة بين أحجارها، ترتدي ثياباً تكسو كامل جسدها، كي لا يخاف الأولاد من الحروق، فلا تخلع حتى غطاء رأسها حتى أثناء النوم. وبصنبور ماءٍ واحد تصبح الحجرةُ مسكناً ومطبخاً وحماماً.
هديل، صديقة غفران، تزورها باستمرار، وتحاول التخفيف عنها ما استطاعت، وتصف حالتها بحذرٍ يُبعد الفضول الإعلامي عن غفران: «تدفع أمّ غفران إيجار الزريبة، فواتير الماء والكهرباء، ومصاريف العيش، مما تجنيه من عملها في خدمة البيوت، وتحاول أقصى ما استطاعت أن تدفع ابنتها على الاستمرار، لكن غفران ترفض الاستجابة، تنطوي على نفسها، لا تتحدث إلا بعلاج جسدها، تخدم أطفالها بالحد الأدنى من الكلام، وتشرد وفي عينها دمعة لباقي الوقت».
أم غفران التي تكفلت بكل شيء، حتى بالوصول إلى المنظمات والهيئات، تُظهر صلابة غير عادية في دعم ابنتها، وتتحدث بقلب الجدة الحنون عن الأطفال: «اعتادوا على عدم الخروج، واللعب داخل الغرفة/الزريبة. صفاء ذات الثمان سنوات تسير على رؤوس أصابعها بسبب تقرحات مزمنة في أقدامها، تخاف من أمها حين تخلع ملابسها، وتشاهد كوابيس تجعلها تتبول لا إرادياً، وريم ذات الست سنوات امتلأ وجهها وجسدها بالثآليل بسبب الرعب الذي تعرضت له حين قُصف منزلهم في القرية، ولا مدارس للطفلتين ولا مشافٍ لعدم حصولهم على بطاقة الحماية المؤقتة، وخولة ذات العامين والنصف تعاني، إضافة لما سبق، من عدائية أختيها، وأحمد ذي العام والنصف ظهر عليه نقص التغذية وتنزف أذنه باستمرار».
«السقف مهلهلٌ ومليء بالثقوب» تقول هديل: «وفي إحدى المرات نزلت حمامة من فجوة صغيرة في السقف، وبينما كنت أتحدث مع غفران، قفزت من مكانها وراحت تندب وتولول، لنكتشف أن صفاء أطعمت البرغل للحمامة، البرغل الذي كان سيمسي غداء اليوم. وبسقف كهذا، وغطاءين يفترشونهما للنوم، تنتظر غفران وعائلتها الشتاء».
دأبت غفران منذ الحادثة على محاولة علاج جسدها، وفي كل مرة تفشل كانت تحاول الانتحار، ضربت رأسها بالمرآة في المرة الأولى، جرحت عروقها في المرة الثانية، وأضربت عن الطعام في المرة الثالثة، وحين أدركت أن لا علاج يعيدها إلى سابق عهدها، انكفأت على نفسها وأطفالها، ولم تعد تهتم بما هو خارج الزريبة؛ تخرج برفقة والدتها فقط وعند الضرورة.
مؤخراً عادت الحياة لعينيها، حين عرضت عليها إحدى الجمعيات في أنقرة العلاج، وهناك أخبرها الطبيب أن العلاج سيكتفي ببعض الحروق العميقة، ولن يعيد لها نضارة جسدها، لأن ذلك يحتاج لعمليات تجميل كلفتها باهظة، ما أصابها بنوبة من الغضب الشديد. حاول الطبيب تهدئتها، واستدعى لها طبيباً نفسياً، لكنها طردته وهي تصرخ: «أنا مو مجنونة، اعملولي عملية التجميل وأنا بصير منيحة», ألحّ عليها، فخلعت حجابها، وكشفت عن صدرها: «أنا رح ضل كل عمري هيك يعني؟!».
أُسقط في يد الوالدة، وأحست بالعجز الكامل أمام ابنتها التي فقدت ثقتها بالناس، فاستعانت بهديل المواظبة على محاولات تحسين أوضاع العائلة ككل، لعل ذلك يخفف قليلاً عنها، وبعد إدخال صفاء وريم إلى المدرسة هدأت غفران، وعادت تتقبل الحديث مع هديل، التي اقتنصت الوقت المناسب لسؤالها عن هذا الإصرار على إعادة جسدها، بعد أن تركها زوجها واختفى؟، لترد: «أنا بنت ال 23 عاماَ واحترق جسدي، لعله يعود إذا سمع بأنني تعافيت».
وإن لم يعُد؟ تقول هديل...
لقد ولّى زمن الفرسان، فتتمة الحكاية أن زوجة الفارس توفيت بعد عدة سنوات، ليكتشف القوم أن الرجل لم يكن أعمى، لكنه ادعى ذلك كي لا تسول له عيناه النظر إلى زوجته نظرةً قد تحرجها أو تجرحها. وغفران المكلومة، والغير مهتمة بفذلكات الحكايات والأساطير تحاول بواقعية المرأة الإنسان، أن تمنح زوجها فرصةً للعودة، لكنها تغص بالإجابة على السؤال الأكثر إلحاحاً: حقاً، ماذا لو لم يعُد؟!.