- Home
- مقالات
- رادار المدينة
هل يمكن استعادة العشيرة في محافظة دير الزور!؟
يكشف المشهد العام في ديرالزور، بعد وضوح مناطق الصراع داخل المحافظة، تسابقاً بين القوى السياسية والعسكرية المحلية والدولية المسيطرة على منطقتي النفوذ، يتخذ شكلاً سياسياً اجتماعياً يسعي طرفاه، نظام الأسد و(مجلس سوريا الديمقراطية)، إلى استقطاب شيوخ ووجهاء عشائريين ومخاتير في بلدات وقرى المحافظة، عبر عقد تحالفات اجتماعية وعسكرية، وتوظيفها وفقاً لمصالحهما وأهدافهما السياسية.
أسفر التسابق العسكري ما بين قوات نظام الأسد والميليشيات الموالية له من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى، من أجل السيطرة على محافظة دير الزور، إلى نشوء منطقتي نفوذ سياسي وعسكري، محلي ودولي، يُشكّل نهر الفرات، إلى حد كبير، خطاً فاصلاً بين المنطقتين؛ حيث يسيطر نظام الأسد والميليشيات الموالية له برعاية الروس والإيرانيين على منطقة جنوب نهر الفرات، بينما يسيطر (مجلس وقوات سوريا الديمقراطية)، برعاية التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على منطقة شمال نهر الفرات.
ويعتمد كلّ من الطرفين المسيطرين في محافظة دير الزور في سياساتهما المحلية، على كسب دعم عشائر المحافظة من أجل تثبيت نفوذهما فيها، لكن طبيعة البنية الاجتماعية في محافظة دير الزور، على الأرجح، لا يتوفر فيها المقومات اللازمة لنجاح مخططات الطرفين. إذ يختلف واقع العشيرة اليوم جذرياً عن التصور التقليدي السائد عنها؛ فقد كشفت الثورة، ومن ثم الحرب في دير الزور، عن هشاشة العشيرة كبنية اجتماعية-اقتصادية وظيفية، وتجلّى ذلك بوضوح في الانقسامات العمودية والأفقية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، التي فككت هذه البنى الاجتماعية، وأدخلتها في صراعات مختلفة خلال مراحل الثورة والحرب.
أما الأمر الأهم، فإن هذا النوع من التحالفات السياسية الاجتماعية التي يعقدها الطرفان المسيطران في المحافظة، وهذه الطريقة بالتعاطي مع الواقع، عدا عن أنه يجعل من نظام الأسد و(مجلس سوريا الديمقراطية)، ليسا أكثر من مجرد إدارتين لشبكات ومجموعات اجتماعية عسكرية، متداخلة ومتعارضة المصالح والأهداف، ومتنافسة بشكل انتهازي، فإنه سيزيد من تعبئة أبناء العشائر بعضهم ضد بعض، من خلال استغلال التوترات العشائرية في المنطقة، وتعميم وتسهيل الانتقام لمجموعات عشائرية من أخرى، مما يُورث المنطقة المزيد من الصراعات والثارات، ويُضيف انقسامات اجتماعية جديدة، خصوصاً أن منطقتي النفوذ شديدة التداخل العشائري على ضفتي الفرات، مما قد يفتح المنطقة على صراعات أهلية لا نهاية لها.
وللحديث عن العشائر في دير الزور فيجب التمييز ما بين العشيرة المتصورة والمتخيّلة، والعشيرة كبنية ومرحلة اجتماعية/اقتصادية طالها التغيير بشكل كبير، إذ تصدعت وتفككت وفقاً لمستويات ميكرو عشائرية: «الفخذ، الجماعة القرابية، العائلة»، عبر مراحل استقرارها، وتعاقُب السلطات على المنطقة، وسقوط الكثير من وظائفها، الأمر الذي برز خصوصاَ خلال مرحلة الثورة، ومن ثم الحرب. فلم تعد تتحرك سياسياً وفقاً للمستوى العشائري العام، كما هو التصور التقليدي عنها. أما شيوخ ووجهاء العشائر وأدوارهم، فقد رافق التغيير الذي أصاب العشيرة، والتقاطعات الطبقية والثقافية والاقتصادية التي اخترقت بنية العشيرة، تغييراً في مكانة وسلطة شيوخ العشائر ووجهائها، والتي انحسرت بشكل كبير داخل كل عشيرة وفروعها، وتحولت من مكانة سياسية إلى مكانة اجتماعية رمزية.
محاولات متعثرة
رغم هذا الواقع المفكك، يسعى كلّ من نظام الأسد و(مجلس سوريا الديمقراطية) إلى كسب دعم العشائر المحلية في محافظة دير الزور، عبر هذه التحالفات. ويفيد مُطّلعون وناشطون في منطقتي النفوذ إلى إجراء الطرفين العديد من الاتصالات خلال الفترة الماضية، بشكل مباشر أو عبر وسطاء، مع شيوخ ووجهاء من عشائر المحافظة. كما أظهرت وسائل إعلامية، سواء تابعة لنظام الأسد أو لـ (مجلس سوريا الديمقراطية)، عدداً من الاجتماعات التي ظهر فيها شيوخ ووجهاء، أبرزهم «نواف البشير/عشيرة البكارة» و «أسعد الدندل/عشيرة الحسون»، برفقة قيادات عسكرية إيرانية، إضافة إلى الاجتماع الذي أقيم في ديوان «حاجم البشير/عشيرة البكارة» بقرية «محيميدة»، بحضور قيادات من التحالف الدولي و(قوات سوريا الديمقراطية). الأمر الذي يعكس التنافس الدولي، كذلك، على استقطاب العشائر في دير الزور ما بين الروس والأمريكيين عبر حلفائهما الإقليميين والمحليين. على أنّ هذه التحالفات التي ظهرت ملامحها بوضوح في منطقة سيطرة النظام، ما زالت تواجه بعض الصعوبات في مناطق سيطرة (مجلس سوريا الديمقراطية).
يمين الصورة نواف البشير
وعلى ما يبدو أن نظام الأسد، الذي كان يعتمد في تخطيطه السياسي والاجتماعي على شبكة معقدة من التحالفات المحلية، هو الطرف الأكثر خبرة في التعامل مع هذه البنى الاجتماعية. وقد لجأ إلى الاعتماد على مزيج من شيوخ العشائر الموالين له، ووجهاء وأبناء العشائر الذين أثبتوا ولاءهم له خلال السنوات الماضية، وتوزيع الأدوار عبرهم على مستوى الأفخاذ داخل العشيرة الواحدة. ويلعب هؤلاء الشيوخ والوجهاء أدوارهم كوسطاء لاستقطاب أبناء جماعاتهم العشائرية عبر المصالحات المحلية. وتفيد الأنباء الواردة من مناطق سيطرة النظام إلى أنهم لم ينجحوا في مهمتهم تلك لغاية الآن، فضلاً عن وجود تنافس ما بين الوجهاء القدامى والجدد داخل العشيرة الواحدة، وفقاً لما أكده مُطّلعون على الأوضاع داخل منطقة سيطرة نظام الأسد؛ فواقع العشيرة اليوم، كما أسلفنا، يجعل من الصعب على أي قوة سياسية أو عسكرية إعادة بناء شبكة التحالفات المحلية، وضبطها بما يضمن ولاءها السياسي بشكل كامل.
أما (مجلس سوريا الديمقراطية)، الذي يحاول الدخول في هذا التسابق، وبناء تحالفات محلية عشائرية في المحافظة، فقد اصطدم بواقع اجتماعي معقد، ليس لديه أدنى معرفة بمعطياته المتغيرة، وبديناميات الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم داخله، وتنعدم لديه الخبرة في التعامل مع كوامنه. لذا فإنه يواجه صعوبات بالغة في هذا السياق، بعد رفض دعوته من غالبية شيوخ ووجهاء العشائر الذين اتصل بهم للعمل تحت سلطته، مما اضطره، حسب ما أفاد ناشطون في المنطقة، إلى عقد تحالفات سياسية اجتماعية مع بعض الفاعلين من الدرجة الرابعة والخامسة، من مخاتير ووجهاء مقيمين في مناطق سيطرته، عبر اتفاقات يصفها الناشطون بأنها زبائنية.
اتفاقيات مؤقتة وتحالفات متناقضة
كما يبدو من سياسات طرفي الصراع في محافظة دير الزور، فإنها تعتمد على شيوخ العشائر ووجهائها. والواقع العشائري المتصدع يجعل من السهولة استقطاب قسم من هؤلاء، إلى جانب بروز وجهاء جدد باحثين عن مكانة ومكاسب. إلا أنه يصعب التعويل على قدرة هذه القيادات التقليدية والوجاهات الجديدة في التأثير على عموم أبناء العشائر، وتجاوز آثار الصراع والخلافات المتجذرة بين مختلف العشائر والأفخاذ والجماعات والعائلات داخل تلك البنى. دون أن يغيب عن الذهن الصعوبة التي ستواجه طرفي السيطرة في ضبط التنافس التقليدي ما بين القيادات العشائرية، أساساَ، للحصول على الدور والمكانة، والذي سيزداد على المدى المنظور مع ظهور الوجهاء الجدد.
كما أن القيادات والوجاهات العشائرية لم تعد ذات تأثير سياسي داخل تلك البنى، وبالتالي لا يمكن أن تؤدي هذه السياسات إلى إعادة ضبط أبناء العشائر، الذين لهم اليوم خياراتهم السياسية ومطالبهم الاجتماعية. ويتخذون مواقف متعددة ومتباينة إزاء القوى السياسية والعسكرية المسيطرة على محافظة دير الزور، نظام الأسد و(مجلس سوريا الديمقراطية) وحلفائهما الدوليين من ناحية، والقيادات التقليدية والوجهاء الجدد من ناحية ثانية، فضلاَ عن مواقفهم حيال بعضهم بعضاَ.
طبيعة الانقسامات الاجتماعية والسياسية في دير الزور أعقد بكثير من التعاطي مع شخصيات معينة، إذ يتحكم بها العديد من العوامل التي لا تقف عند الصراع الاجتماعي والسياسي خلال السنوات السابقة، ما انعكس على التنقلات السريعة لأبناء العشائر في تحالفاتهم المتناقضة، وفقاً لموازين القوى والسيطرة وطبيعة الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي فيها. وما يجعل الواقع الاجتماعي في المحافظة يزداد تعقيداً، هو نشوء منطقتي نفوذ داخلها، وتعدد السلطات المحلية والإقليمية والدولية المتواجدة في المحافظة بآن، وبروز توترات مذهبية وإثنية جديدة. كل هذه المستجدات، إضافة إلى واقع العشيرة البنيوي، يجعل من محاولات إعادة إنتاج العشيرة من قبل طرفي السيطرة أمراً أقرب إلى المستحيل، وما يحدث لا يكاد يكون أكثر من اتفاقيات تكتيكية مؤقتة، يتبادل فيها المسيطرون مع الشخصيات التي يختارونها المكاسب والمنافع.
أما العشائرية كنسق من القيم المحددة لسلوك قسم كبير من أبناء العشائر، والتي تتجسد بالتحديد في النزعات العصبية (الفزعة)، التي ظهرت بشكل حاد في مختلف مراحل الحرب وتحالفاتها، ونراها كل فترة على مستوى الأفخاذ والعائلات وليس على مستوى العشيرة ككل- فتلك تحتاج لزمن طويل نسبياً كي يطالها التغيير.