- Home
- مقالات
- رادار المدينة
هذا ما يحمله ثوار دمشق وريفها في جعبتهم من نماذج وبنى اجتماعية جديدة وموروثة
بعد فشل البنى الثورية في الغوطة وجنوب العاصمة في بناء نماذج للإدارة، واستسلامهم للتهجير مؤخراً، تعيش تلك البنى اليوم في شتاتها بعلاقاتها الاجتماعية التي أطرتها الثورة ثم الحرب، محافظة على الحد الأدنى من بنيتها الجديدة أو القديمة، تلك البنى دخلت في مخاضات وصراعات بينية دفعت باتجاه شكلها الحالي.
بشكل عام، شكلت الثورة نسيجاً اجتماعياً مغايراً في العديد من النقاط والمرتكزات الأساسية عن الثوب الاجتماعي السابق الذي ارتداه السوريون لعقود طويلة. وساهمت الحرب بدورها في دفع السكان في مواضع نحو تكوين علاقات جديدة أكثر تقدماً وتعقيداً من العصبيات التقليدية المتوارثة، كالولاء للعائلة الكبيرة أو القبيلة والعشيرة أو الحارة والحي، رغم تقاطع شبكتي العلاقات، وحولت في مواضع أخرى بعض هذه العصبيات إلى علاقات جديدة يغلب عليها الطابع الوطني أو العقائدي أو الفصائلي، في حين ساهمت العصبيات ذاتها كالعشائر في خلق أو توسيع التشكيلات الاجتماعية الجديدة بشكل أو بآخر.
المسجد كحزب سياسي
منذ بدايات العام الثالث للثورة، عاشت مدينة داريا المتاخمة للعاصمة دمشق تجربة جديدة آذنت بنشوء العديد من الولاءات التي لم تكن ملحوظة قبيل هذا التوقيت. وكمدينة محافظة، اشتهرت داريا بكثرة مساجدها التي افتتحت معاهد لدراسة القرآن والعلوم الشرعية، التي سمح النظام بتواجدها تحت اسم (معاهد الأسد لتحفيظ القرآن)، وكان طلاب المساجد، إضافة للمدرسين فيها، هم أكبر شريحة يمكن وصفها بالمثقفة في المدينة، التي تضم قرابة 400 ألف نسمة. الشريحة التي انشغلت سابقاً فيما بينها بمناوشات فقهية في معظمها، أنتجت الولاء للمسجد الذي طفى إلى السطح بعد الثورة كبديل عن ولاءات موروثة للحي أو العائلة الكبيرة، وإن تقاطعت معها في أحيان متعددة، ثم لتتحول هذه العلاقة (الولاء للمسجد)، بعد سنتين من الثورة تقريباً، إلى مسار آخر أقرب إلى العمل السياسي المنظم.
انخرط في المظاهرات الحاشدة، التي كانت تجوب شوارع داريا العريضة، معظم (فئات الشعب)، لكن أغلب من كان يقود هذه التظاهرات هم طلاب المساجد. ومنذ البدايات كان الانقسام (الفكري) بين خريجي أكثر من 30 مسجداً واضح المعالم؛ فدارت السجالات على مواقع التواصل وفي المناسبات العامة بين أصحاب الفكر الديني التقليدي، التابع غالباً لجماعة زيد بن ثابت برئاسة الشيخ أسامة الرفاعي (أو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي)، وبين جماعة أخرى أكثر خبرة تعتنق أفكار جودت سعيد القائلة بمبدأ اللاعنف.
تراجع دور طلاب المساجد خلال تسليح الثورة، لتقود الفئات الوسطى، التي يتألف أغلبها من الحرفيين، غالبية المواجهات الدامية مع النظام. لكن، وبعد مجزرة داريا، استعاد الطلاب دفة القيادة منذ تأسيس المجلس المحلي لمدينة داريا، ثم كتيبة (شهداء داريا)، مع انقسامهم الذي بقي واضحاً لعدة أشهر، إلى أن قام أتباع فكرة اللاعنف بالتخلص من خصومهم بأساليب متنوعة، كتجميد الدعم، وكسبهم إلى جانبهم بالمناصب، مستخدمين دعاية وطنية تقوم على ضرورة الدفاع عن المدينة ومواجهة الحصار.
وهكذا غدا الولاء قائماً على أيدولوجيا معينة تمثلت في المجلس المحلي، بينما خضع العسكر لفصائلية قائمة على الصراع على المصالح، والمال السياسي الذي تدره سمعة داريا كمدينة صامدة.
في خطوة لاحقة، ابتلع لواء (شهداء الإسلام)، التابع للمجلس المحلي، معظم المقاتلين الذين هجروا خصمه العتيد (لواء سعد بن أبي وقاص) المؤسس الأول للعمل المسلح في داريا، لينحصر مذّاك ولاء المقاتلين، تدريجياً، في جسم عسكري واحد -لواء شهداء الإسلام-، وجهة مدنية وحدت الجميع تقريباً، هي المجلس المحلي لمدينة داريا.
في نفس الوقت طفت عصبيات أخرى استطاعت الانفصال عن الجمع، وبرزت كنوع من الشللية الناجمة عن تجمع طلاب عدد من المساجد السابقة، وحيث تربى هؤلاء في مكان واحد منذ الصغر، لتبرز أسماء مثل جماعة المصطفجية (نسبة لجامع المصطفى)، وجماعة حزقيل (مسجد يحمل نفس الاسم)، وجماعة عبد الأكرم السقا (جامع أنس بن مالك وتتبع لأفكار جودت سعيد). مارست هذه الشللية التي انضمت للمجلس المحلي وظيفة الأحزاب السياسية بشكل مصغر، حيث كانت الاجتماعات تعقد قبيل موعد الانتخابات المحلية لتبدأ الطبخات السياسية التي كانت تنتهي غالباً بحدوث ائتلاف سياسي تشرف عليه جماعة عبد الأكرم.
سلطة القبيلة لم تتأثر
منذ بداية الثورة غادرت العشائرية قاموس منطقة جنوب دمشق، لكنها سرعان ما عادت بفعل ما يسميه نشطاء من المنطقة بالإغاثة الممنهجة، التي كان مصدرها الهلال الأحمر السوري ووكالة الأونروا، وبعض الجمعيات الخيرية والمجالس المحلية كذلك.
تتوزع العديد من عشائر أبناء الجولان المحتل في معظم بلدات الجنوب الدمشقي، التي تشمل مخيم اليرموك والحجر الأسود، إضافة لبلدات الذيابية وسبينة والحسينية والبهدلية والبويضة، ومروراً بحيي التضامن والعسالي. وحين اندلعت الانتفاضة السورية، شهدت منطقة جنوب العاصمة تغيراً ملحوظاً في خطاب العشيرة، الذي حل مكانه مجتمع موحد بموجب فكر ثوري متمرد على جميع الاعتبارات الهدامة، كما يحلو لبعض الناشطين أن يؤكد.
الفترة الذهبية لهذا المنجز المتميز استمرت من نشوب الثورة وحتى انتهاء الحصار الأول ودخول المنطقة في هدنة بداية العام 2014، والتي بموجبها دخلت صناديق إغاثية للمنطقة من الهلال الأحمر، وتم توزيعها بشكل مناطقي بين أبناء البلدات الثلاث الواقعة تحت سلطة المعارضة، يلدا وببيلا وبيت سحم، بينما تركت بقية الفئات الاجتماعية النازحة من بلدات الذيابية وسبينة والبويضة، وغيرها من المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، تعاني من غلاء أسعار المواد الغذائية التي يحصل عليها أهالي البلدات المهادنة مجاناً، في حين تباع للنازحين بأسعار خيالية.
لم تشهد المنطقة، منذ اندلاع القتال مع النظام، تسليحاً على أساس عشائري، الأمر الذي تبدل بعد فترة من الزمن، حين تم العزف على وتر العشيرة لاستقطاب الشباب غير المنضمين لأي من الفصائل السابقة: فضم كل من فصيلي (أكناف بيت المقدس) و(العهدة العمرية) مقاتلين فلسطينين، بينما استقطبت (فرقة دمشق) في عشيرة الهوادجة من أبناء الجولان، وتشكل لواء (شام الرسول) من أبناء بلدات يلدا وببيلا و بيت سحم، أما لواء (أجناد الشام) فضم أبناء حي القدم الدمشقي.
هذه العصبية التي عادت للحياة كانت أحد أسباب توغل تنظيم (الدولة الإسلامية) في الجنوب الدمشقي، وسيطرته على الحجر الأسود ومخيم اليرموك والعسالي، فقد كانت نواة التنظيم الأساسية في بلدة يلدا، لكنه عندما نشب النزاع بين التنظيم والجيش الحر لجأ إلى الحجر الأسود، وتمت محاصرته حينها من قبل فصائل الحر، لتحدث المفاجأة التي تمثلت في وقوف عشيرة البحاترة (إحدى عشائر الجولان المحتل) مع التنظيم، كون زعيم التنظيم في المنطقة (أبو هشام الخابوري) من وجهاء هذه العشيرة، مع أن معظمهم لم يكن منتسباً لتنظيم الدولة.
مقارنة مع الأحداث الكبرى التي جرت في المنطقة الشرقية (الرقة، دير الزور) بين عامي 2013 و 2017 لا يمكن ملاحظة أي فارق أساسي بين التجربتين. في المنطقة الشرقية ساهمت سلطة العشيرة في التمكين لفصائل ضخمة، لتتحول هذه العشائر إلى الولاء لأفكار عقائدية راديكالية، لكنه ولاء على أساس المصلحة في منطقة تضم معظم الثروات الباطنية في سورية. وبرغم محاولات التنظيم المتكررة للسيطرة على العشائر، وخلق نوع من الانسجام الكامل معها، إلا أن القبلية بقيت العصبية الأهم، والتي تقوم على أساس الدم، واعتبار الإخوة وأبناء العمومة هي العصب الرئيسي للعلاقات الاجتماعية.
الولاء للفصيل كبديل عن المنطقة
في الغوطة الشرقية يبرز الولاء الجمعي للفصيل متجاوزاً أي عصبية أخرى، رغم وقوف عصبية الانتماء للمكان والولاء له خلف قسم منه. ويتقاسم في الغوطة النفوذ فصيلان كبيران، هما (جيش الإسلام) و(فيلق الرحمن)، ونتيجة للصراع بينهما قسمت الغوطة إلى ثلاثة قطاعات، دوما والمرج (سيطر عليه جيش الإسلام)، والقطاع الأوسط الذي يضم الأجزاء المتاخمة للعاصمة كجوبر وعين ترما، إضافة لعربين وزملكا وكفربطنا وحمورية والذي كان يخضع لسيطرة فيلق الرحمن.
عند اندلاع القتال بين الطرفين كانت تنصب الحواجز بين مناطق النفوذ، ويهرب الجنود الموالون ل(جيش الإسلام) من القطاع الأوسط، وبالعكس، لتنتصر أخوّة السلاح التي تشكلت منذ فترة وجيزة والرفاقية التي حملتها على الدم والحي أو البلدة، وليبقى الفصيل هو العصبية الوحيدة، مع نفي غير الموالين إلى مناطق ولائهم، حتى لو كانت غير بلداتهم الأصلية.
وصلت الفصائلية إلى القمة بتغلبها على سلطة العائلة والحي والمدينة، وقطعت معها مرحلة كبيرة إلى الحد الذي يقاتل فيه أبناء البلدة الواحدة بعضهم البعض، كنتيجة حتمية لانضمام كل طرف إلى فصيل معين، وعادة ما ينتهي الصراع بطرد عائلة الفصيل المغلوب خارج المنطقة.
تبدلت بعض الولاءات خلال سنوات الثورة والقتال، وتشكلت علاقات جديدة أقرب إلى الولاء للفكرة ضمن عمل جماعي منظم يشبه الحزب السياسي، في حين لعب الولاء للفصيل دوراً بارزاً في مناطق سيطرة المعارضة الواسعة التي غلب على سكانها في الماضي الولاء للمنطقة، بينما لم تنجح جميع التغيرات، وحتى المواجهات العنيفة، في كسر سطوة العشيرة التي بقيت صامدة، وإن كانت شهدت بعض التغيير في أحيان كثيرة، لكنه يبقى تغييراً مؤقتاً نابعاً من المصلحة الاقتصادية، أو الصراع على السلطة والنفوذ.
أرشيف المجلس المحلي لداريا