- Home
- مقالات
- رادار المدينة
نافذة على موسيقى أعراس الشمال السوري
تحية إلى شباب جبل الأكراد، شباب القصير وعنجارة بالأجمع. شباب إدلب، المداهيش بني بارود، العيس، معصران ومرديخ، كفر داعل، خان طومان، أحلى شباب الشام، وبني طلحة، قبتان الجبل، حماه والغاب، تحية لشعب خان شيخون الغوالي، شعب صوران، تحية إلى دارة عزة، كفر حلب، كفر بطيخ، تل رفعت، اللطامنة، الحويز وقبر فضة... ألف رحمة لروح أخو العريس الشهيد )...( وخال العريس الشهيد )...( وشهداء سوريا جميعاً...
قد تكفي كتابة كلمة "مجزرة" على محرك البحث خلف الأسماء الواردة في خارطة التحيات الجغرافية هذه؛ لفهم سبب اجتماع أبناء ست محافظات سورية مختلفة في حفل زفاف أقيم بصالة أفراح بقرية باسوطة العفرينية مطلع حزيران الماضي كما يخبرنا منتجو الفيديو على يوتيوب. وإذ تعد الأعراس مناسبة الفرح الجماعي الأبرز للتجمعات المهجرة والمحلية على امتداد مناطق الشمال المحرر وما بات بحكمها اليوم؛ فإن حفلاتها تشكل المتنفس الأوحد لممارسة النشاط الموسيقي الحي، خاصة بوجود المئات من المغنين والعازفين، وما يلحق بهم من مصورين ومنظمين، راقصين وصالات أفراح، ما يتيح الحديث عن بعض السمات التي تطبع موسيقى الأعراس السورية على واقع التنوع الديموغرافي هذا، لكن لابد من وقفة قبل ذلك.
يشغل الغناء في الأعراس محطة رئيسية مشتركة في سيرة المغنين السوريين باختلاف انماطهم الموسيقية ومناطقهم ونوعية أدائهم خلال نصف قرنٍ مضى. ينطبق هذا على أسماء رصينة في المدن الكبرى مثلما يشمل غالبية مغني الريف والمدن الصغيرة في طول البلاد وعرضها. شهدت السبعينيات السورية هزيمة شركات الإنتاج التجاري ونهاية الاستثمار الخاص في القطاع الفني. أصاب ذلك شركات إنتاج الأفلام وشركات الأسطوانات الموسيقية التي أغلقت وضعف سوقها بغياب قوانين حقوق الملكية الفنية التي لم تساعد بداية ظهور الكاسيت في تأسيس شركات انتاج منافسة لنظيراتها إقليمياً، مع سيطرة الدولة واحتكارها للمسارح والتمويل ووسائل الإعلام عبر الإذاعة والتلفزيون التي بدأت تُنخر بالمحسوبيات والفساد والأدلجة، مثلها كباقي المؤسسات العامة في أجواء سياسية وثقافية مهجوسة بالرقابة والولاء للسلطة وما ترتب عن ذلك من انغلاق وانعدام حرية عام. هكذا، وفي حالة نادرة، انقرضت الفرق المستقلة، وبات من النادر وجود أنماط موسيقية معاصرة لمثيلاتها في الدول الأخرى بما فيها تلك المحكومة بأنظمة توصف بالشمولية والقسوة، فيما تصدر نخبة من الفنانين والموسيقيين البيروقراطيين المتوافقين مع المنظومة أو غير المكترثين بالشأن العام، منصات الأعياد والمناسبات "الوطنية" ومنهم من لا يزال على رأس عمله حتى الآن. ساهمت هذه العوامل إما بهجرة الموسيقيين والمغنين إلى الخارج، او الانخراط بالوظيفة الحكومية الفنية وما يتخللها من تورطٍ شبه حتمي في تمجيد القائد ومنظمات نظامه غير المعني بالإنفاق على الفن ولا دعمه. أما مَن لم تقده الدروب المضنية إلى هذه الخيارات فبقي يعمل ضمن المتاح في الظل المحلي التقليدي، بعيداً عن عقدة النقص الثقافية والنخبوية التي بدأت تتكرس تجاه النتاجات الموسيقية المتفوقة للبلدان المجاورة، ولهذا حديث آخر.
بقيت المناسبات وأعراس المجتمعات السورية تمثل شكلاً من أشكال التمويل الأهلي للموسيقى المحلية غير الحكومية، ومصدر دخل لآلاف المغنين والعازفين وسبباً رئيسياً لانتشارهم وشهرتهم ولو على النطاق المحلي، إلى جانب مواهبهم وميزاتهم الفردية بالطبع. قد يصلح ذلك على المنشد الراحل حسن الحفار مثلما يصح على شاعر العتابا ومغنيها أحمد التلاوي الذي أدى قصف طيران الأسد لبيته في مدينة سراقب لأن يحل ضيفاً بعمر الرابعة والسبعين عاماً، برفقة العشرات من الفنانين المهجرين، على أعراس مدينة اعزاز وغيرها من مناطق الشمال هذا الصيف. ومع ذلك، للأداء في المناسبات والأعراس شروط وقواعد أيضاً؛ إذ إن عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية تلعب دوراً في اختيار أهل الحفل للمغني أو النمط الموسيقي الذي سـ"يحييه". ففي حين يشيع أن تلجأ بعض البيئات المحافظة للاستعانة بفرق إنشادية يتركز برنامجها على المدائح وأقل قدر من أصوات الآلات الموسيقية؛ تختار بيئات أخرى مغنين شعبيين أو طربيين مع ما يرافقهم من آلات وأورغات. يختلف هذا حسب كل منطقة وما هو دارج فيها من دبكات أو رقصات تفرض نسقها على موسيقاها.
يميل أهل مدينة حلب عادةً إلى استقدام مغنين يعرفون المزاج المحلي وأساسياته الاحتفالية التي تحتل رقصة العربية الخاصة بمدن المنطقة الوسطى صدارتها. تُرقص العربية على إيقاع "الوحدة الكبيرة" الذي سيرافق مواويل سبعاوية على المغني أن يجيدها، في حين تميز العتابا والدبكة المعروفة باسم "العَرب" الخاصة أيضاً بريف وسط سوريا برنامج حفلاتهم. تساعد فروق مقامية في التمييز بين المناطق عن بعضها، مثلاً، غالباً ما يختار عازفو ومغنو ريف حماه الشمالي مقامات كالسيكا أوالبستنكار ليرافقوا إيقاع دبكتهم، فيما يؤديها أهل ريف حلب الجنوبي والغربي على مقام البيات. وكذا الحال، تسيطر دبكات محلية كالولدة والنشلة على موسيقى حفلات ريف حمص والأرياف الشمالية الشرقية، دون أن يخلو الأمر من تقاطعات وتنويع وتداخل بين هذه الايقاعات والدبكات العابرة للمناطق في الكثير من الأحيان. وتحتل آلة الزورنا والطبول مكاناً كلاسيكياً في أعرس أهل عفرين الأكراد رغم النزوع للدبكات المختلطة التي تديرها موسيقى وأغانٍ متداولة في مناسباتهم. مثلما يمارس التركمان والأديغا في منطقة الراعي والمناطق الحدودية دبكاتهم الخاصة. إلا أن المحافظة والقوالب الموسيقية تخف وتتمازج في القرى على ضفتي الحدود مع تركيا، خصوصاُ مع ما أفرزته ظروف التهجير والمخيمات من اختلاط من جهة، ومرونة الفرق والمغنين في القدرة على الاداء والتماشي مع أجواء الفرح المطلوبة من جهة أخرى.
لا تفترض الأسطر السابقة تقسيماً اثنياً سريعاً للموسيقى ولا تجاهلاً للفروقات الفنية بين المؤدين، بقدر محاولة الإشارة إلى الدور الوظيفي المنوط بالموسيقى في المناسبات المسؤولة عن بقائها كمهنة موسمية الدخل، وبالتالي تقيدها على اختلافات أنماطها بالقوالب المعروفة والتناسخ الغنائي واللحني غير المعني كثيراً بالتجريب، وهذا ما يمكن اعتباره من مزايا الموسيقى الأهلية السورية عموماً وما يتجسد بكثافة في موسيقى أعراس الشمال التي يلاحظ طغيان الأغاني الشعبية عليها، متخففة من آثار المنتجات الحكومية أو التجارية قدر الإمكان. بهذه الكيفية يملأ معاذ الحلبي، المهجر من حلفايا في ريف حماه، ثلاث ساعاتٍ متواصلة من عرس الباسوطة بأغنياتٍ له ولعادل خضور وعبيد الحجي وصباح فخري والتلاوي وغيرهم.
مع ذلك، ليس للفرح دائماً قواعد ثابتة، خاصةً عندما يكون عضوياً وقريباً من الهم المحلي العام. يتجلى ذلك عندما يمرر المغنون عبارات عن حنين العودة إلى الديار و"خلي هالبارود يهز عالجبهات المنسية"، أو أن تحول فرقة إنشاد غناءها من موشح "سبحان من صور حسنك" ذي الإيقاع المركب، إلى "حر حر حرية، غصب عنك يا بشار رح نحصل عالحرية". وكذا يتيح مزيج من الارتجال واللعب لفرقة أخرى أن تخلط موسيقى ليلة القبض على فاطمة الشهيرة مع لحن وإيقاع "التقطيع" "الزوري" الشعبي الذائع في ريف دير الزور بأغنية "جنة جنة جنة". ليرقص الحضور حاملين الأعلام ويُرفع العريس على الأكتاف فيما يردد المغني: "يا مارع ما يهزك ريح، لا داعش ولا شبيح... عالموت شدينا رحال على شانك سوريا".