- Home
- مقالات
- رادار المدينة
من المظاهرات إلى داعششهادة على ثورة القورية.. وفي نقدها (1 من 2)
تقع مدينة القورية على مسافة 55 كم شرقي دير الزور. ويبلغ عدد سكانها 60 ألف نسمة تقريباً، ينتمي معظمهم إلى عشيرة القرعان، أحد فروع قبيلة العكيدات العربية، فضلاً عن عائلات من عشائر أخرى.
قبل الثورة كانت الزراعة، وتحويلات الأبناء العاملين في الخليج العربي، الحاملين الرئيسيين لاقتصاد القورية، المشابه لغيره في بعض المدن أو البلدات الريفية في محافظة دير الزور. ويعد العام 1990، تاريخ الغزو العراقي للكويت، تاريخاً مفصلياً في الوعي الاجتماعي العام، إذ شهدت القورية ما يشبه الصحوة لأهمية التعليم كضمانة أكيدة لمستقبل أفضل، بعد أن تبددت الثقة بالعمل في الخليج الذي ارتبط بحلم الإثراء السريع قبل الغزو. ليرتفع، في العقدين اللاحقين، عدد خريجي الجامعات والمعاهد إلى حد كبير مقارنة مع العقود السابقة. وبلا شك تركت هذه النهضة التعليمية النسبية أثرها البنّاء على مجتمع القورية، وربما تكون أحد الأسباب التي تفسر التحاقها المبكر بركب الثورة في آذار 2011. في ذلك الوقت شكلت أول مظاهرة صدمة للعقل الجمعي وللعقل المعارض في القورية، إذ أصيب هذان الوعيان بداية بالذهول إلى درجة ما يشبه الرفض أو عدم التصديق. ما أقوله هنا ليس تحليلاً بل وقائع عشتها وكنت شاهداً عليها، حين كان الثوار يكتبون شعاراتهم على الجدران ليلاً قبل أن يمسحها البعثيون والمؤيدون في النهار، فضلاً عن التحريض والتعبئة لصالح الثورة في كل مكان، إلى أن نجحت القورية في إخراج مظاهرات منتظمة كل أسبوع، وأحياناً مظاهرتين أو ثلاث. لم تكن التحديات الأمنية صغيرة أمام الحراك المتصاعد، لكن إصرار الشبان جعلهم يصمدون في وجه محاولات الترهيب والترغيب. في تلك الأشهر من عام 2011، ثم في الأشهر اللاحقة من العام التالي، كانت القورية مسرحاً لصدامات كبرى بين قوى الأمن والمتظاهرين، جعلت منها حاملاً رئيسياً لثورة ريف دير الزور، وخاصة بعد أن نجحت في التصدي لدبابات النظام وحملاته العسكرية المتلاحقة، إثر فشل مخابراته وأجهزة أمنه في سحق الثورة.
القورية محرّرة
في حزيران 2012 حرّرت المدينة بشكل نهائي من النظام، لكن قواته المنسحبة إلى البادية القريبة ظلت تمثل تهديداً للمدينة وأهلها الذين سرعان ما استعادوا نمط حياتهم الطبيعي رغم الصواريخ وقذائف المدفعية. ارتبط حراك القورية المسلح بكتيبة القعقاع التي تولت تحرير المدينة، وسجلت –بعد أن تحولت إلى لواء- مشاركات هامة في معظم المعارك والمواجهات العسكرية في ريف دير الزور الشرقي، من البوكمال على الحدود العراقية إلى مطار دير الزور العسكري. استمرت المظاهرات وأوجه النشاط الثوري المتنوعة في المدينة، وظهرت، إلى جانب ذلك، كتائب ومجموعات مسلحة بدوافع انتهازية من مؤسسيها. سيكون لهذه الأجسام الوليدة دور هدام في تشويه صورة الثورة والجيش الحر الذي أخذت سمعته بالتراجع مع مظاهر الفوضى والفساد التي ارتبطت ببعض الكتائب المنتمية إليه. مهدت هذه المظاهر، إلى جانب عوامل داخلية وخارجية في بنية الجيش الحر، لسقوطه لاحقاً تحت ضربات القاعدة/ جبهة النصرة ثم داعش.
الثورة والحاضنة الاجتماعية
انقسمت الحاضنة الاجتماعية في القورية إلى ثلاثة تمثيلات سياسية؛ أولها ما كان يدعى بالأنصار، وهؤلاء مؤيدو الثورة الذين دافعوا عنها وشكلوا الخزان البشري الذي بقي يرفدها بدماء جديدة، وثانيها الفئة المختلطة بين معارضي الثورة ومؤيدي النظام، والثالثة مثلها الحياديون. عاشت فئة الحياديين الشقاء بعينه، إذ سيطر عليها الخوف والتردد وترقب موازين القوى كي تقرر موقفها، لكن زئبقية ميزان القوة وعدم استقراره زاد في شقائها إلى أن وصل الاستقطاب في الشارع إلى درجة حادة. ثم إن النظام لم يتركها في حالها بل طلب منها الولاء، وأخص بالذكر هنا من كانوا قد انتسبوا إلى حزب البعث تقية، إذ ذكّرهم النظام بشعار «بالروح بالدم نفديك يا بشار» وأسقط عنهم ورقة التوت، وكذلك أحرجتهم الثورة عبر شعارها الصادم «الما يشارك ما بيه ناموس»، إلى أن أجبرت هذه الفئة على التلاشي والانخراط هنا أو هناك على طريقة «مكره أخاك لا بطل».
وبالرغم من تعدد التشكيلات المدنية الوليدة بعد التحرير، إلا أنها لم تكن حدثاً فارقاً في تاريخ الثورة، فقد كانت التربيتان البعثية والاجتماعية هما الموروثان الأهم اللذان ضربا العقل حتى النخاع. وكانت هذه الهيئات أدنى بكثير من مؤسسات السلطة، وكان ينقصها الكثير من الناحيتين الذاتية والموضوعية -مع الإشادة طبعاً بالجهود الفردية والنوايا الطيبة للبعض- ففشلت فشلاً ذريعاً في إقناع الناس بأنها البديل الإيجابي المنشود.
المرأة
علينا ألا ننسى الدور الكبير الذي لعبته المرأة في القورية والأعباء الثقيلة التي تحملتها. لقد كانت النساء الجندي المجهول في هذه الثورة، بتشجيع المتظاهرين والاحتفال بهم بالزغاريد ونثر السكاكر والأرز فوق رؤوسهم، ثم وقوفهن وقفات لا تنسى تجلت في صور مختلفة من تحضير الطعام واللباس والأغطية والتبرع بالنقود وإرسالها لمقاتلي الجيش الحر أيام البرد والجوع والملاحقة قبل التحرير، وفي فتح بيوتهن منتصف الليالي لإيواء الثوار والتغطية عليهم أوقات الحملات الأمنية والعسكرية. كانت المرأة في القورية مثالاً للام الصابرة والأخت الحنون الشجاعة، وقدمت أحياناً أكثر بكثير ما قدمه كثير من الثوار. لقد كان حمل المرأة ثقيلاً، خصوصاً اللواتي فقدن فلذات أكبادهن واللواتي فقدن أزواجهن وهنَّ في مقتبل العمر، فكان الزمن يمر عليهن ثقيلاً جداً، وبعضهن فارقن الحياة حزناً وقهراً.
المخاتير وشيوخ الدين
في كل مجتمع فئات اجتماعية متمايزة ومختلفة في آن واحد، وخصوصاً في المجتمعات ذات النمط الواحد في المأكل والملبس ونمط العيش والحياة والسلوك والفكر. وفي مقدمة هذه الفئات الاجتماعية يأتي المخاتير وظلهم من الفعاليات الاجتماعية. وقد اتخذ هؤلاء -أو معظمهم- موقفاً معارضاً للثورة لأسباب عدة؛ يأتي في مقدمتها أن الفعل الثوري نفسه، الحامل لقيم الحرية والعدالة، أكبر مما تستوعبه عقولهم التي تربت على طاعة أولي الأمر، وتماهي عقليتهم المبنية على قيم الاستبداد مع عقل السلطة أكثر من تماهيها مع عقل الثورة، بسبب تشابه البنيتين. كما أن المنافع المتبادلة بينها وبين نظام الاستبداد هو ما جعل واجهات العشائر تُبع للسلطة القائمة بغض النظر عن أصلها وفصلها. لقد واجهت هذه الشريحة محنة الانكشاف التاريخي أمام جمهورها، وأصبحت وجهاً لوجه مع الثورة ومع استحقاقاتها، ما أدى إلى فشلها في أن تكون على غير ما تربّت عليه سياسياً واجتماعياً. لكن المؤسف أن الثورة، عندما تجاوزت هؤلاء، لم تتمكن من إقناع الناس أنها الأفضل، ما جعل أهالي المدينة كمن أضاع الرقصتين.
أما فئة «شيوخ الدين» (مع تأكيدي أن هذه التسمية مجرد اصطلاح لا يحمل مدلوله، إلا أني سأستعمله مجازاً) فانقسمت إلى قسمين؛ انخرط الأول في الثورة ونشط في الجوامع ومناسبات العزاء، وشارك خصوصاً في المظاهرات السلمية التي غلب على شعاراتها الخطاب الوطني الجامع، لكنه، ومع تحول الثورة إلى العسكرة ودخول الإخوان المسلمين والسلفية الخليجية، تبنى الشعارات الطائفية التي عزفتها بثينة شعبان ودندن عليها العرعور، ما مهد طريق القاعدة إلى وفي سورية، من داعش والنصرة، إلى أن حلت الكارثة التي ستودي بالثورة أولاً وبالشعب السوري ثانياً. أما القسم الآخر من الشيوخ فبقي «صامتاً» ولكنه يغمغم رافضاً للثورة .
دور مجموعات الدعم في الخليج وأثرها
في بداية الثورة أسهمت هذه المجموعات مساهمة إيجابية لجهة الدعم المعنوي والمالي المتواضع الذي تتطلبه المرحلة السلمية من لوازم الإعلام وما شابه. كما شهدت المرحلة الأولى من العسكرة (بغض النظر عن موقفي المعارض لها) أعمالاً إيجابية على الصعيد الإنساني، من دعم للمحتاجين ولبعض الثوار الذين تضرروا. وبالرغم من أنه كان دعماً متواضعاً إلا أنه كان ذا أثر معنوي بادٍ. كما خصصت، لفترة، رواتب لعوائل الشهداء. كانت تلك مراحل البدايات، والبدايات دائماً خصبة ثم تبدأ بالفقر، وهكذا ثورة السوريين. ولم تستمر الحال هكذا، وسيكون للتطورات على الأرض في الداخل صداها في الخارج. وإذا كان لي من نقد سياسي وأخلاقي لـ«ثوار» الخارج فإنه يتمثل بما يلي: لقد أسهموا مساهمة فعَّالة في تسريع العسكرة ودفعها إلى نهاياتها، وجعلوا القورية تدفع ثمناً مبكراً لحملها السلاح. وفي الاجتياح الأول للمدينة كانت بعض القرى المحيطة تعلن ولاءها لبشار الأسد وتنتظر قضاء جيش النظام على ثورة القورية وحتى على أهلها. وهنا أقول: لقد كانت دنانيركم إثماً في رقابكم لا يمحوه إلا الله. أما الحديث عن الفساد وسرقات أموال الثورة فيطول. ولو أني أملك توثيقاً غير المشافهة التي وصلت إليّ وطالت أسماء معروفة لما ترددت لحظة واحدة في فضح كل من تاجر بعذابات الناس. ولو بقيت لي ساعة من العمر تتاح فيها محاسبة بشار الأسد ومجرموه فلن أتردد لحظة في المطالبة أيضاً بمحاسبة لصوص الثورة ومجرميها، وما أكثرهم.
panoramio