- Home
- مقالات
- رادار المدينة
مقاتلو الشاشة.. 10 سنوات من سينما النظام
كانت شاذةً عن سياق السينما السورية منذ احتلها البعث فأصبحت مقتصرة على سينما القطاع العام. تلك الأفلام ذات القيمة الفنية، والتي كان لبعضها حضور في مهرجانات دولية، بل ونالت الكثير منها جوائز لعل السينما السورية لم تحقق سواها في تاريخها.. كانت تلك الأفلام المغايرة للسياق العام الفني والثقافي السوري في سنوات حكم البعث منذ سبعينات القرن الماضي، تقوم بما لا شك فيه على جهود مختصين درسوا السينما في الخارج، وعايشوا في حياتهم تجارب ثقافية وفنية ومجتمعية خارج السياق السوري، وعندما بدؤوا بالإنتاج في بلادهم كانوا محكومين بعقلية القطاع العام الذي محى المعالم الفنية الإبداعية من غالبية التجارب، فيما شذَّ القليل عن ذلك بشرائط أغلبها لا يتوفر اليوم بنسخ دقيقة إلا في مكتبة المؤسسة العامة للسينما، التي يبدو أنها تفضل إحراق تلك التجارب على نشرها.
أسماء كالراحل نبيل المالح ومحمد ملص وسمير ذكرى وأسامة محمد والراحل ريمون بطرس وعبد اللطيف عبد الحميد وغسّان شميط، كانت تتردد مرّةً كل عدة أعوام حين تتيح لها وزارة الثقافة إنتاج الأفلام. حيث اقتصر الإنتاج قبل عام 2002 على فيلمين سنوياً، فيما تم رفع السقف إلى أربعة بعد ذلك العام وهو ما لم يتحقق فعلياً، إذ بقي الإنتاج متراوحاً بين اثنين وثلاثة أفلام.
هذا الفقر بالإنتاج، والمتوازي مع ضحالة فنية في نسبة كبيرة مما أُنتج، كان مترفاً بقيمته إذا ما قورن بما حدث بعد ذلك، أي بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث كانت مؤسسة السينما صريحة بإقصاء غالبية أولئك المخرجين مع مشاريعهم، حتى وإن أظهروا انتماءً واضحاً للنظام، مقابل استقدام صنّاع جدد، ذوي مواقف حاسمة، ورسالة فنية لا تختلف عن رسالة أي محلل سياسي كان يخرج على قنوات النظام ليهتف باسم القائد وجيشه.. كانت مؤسسة السينما تريد فيلماً واضحاً معلناً، مليئاً بالرصاص والأعلام وصور القائد، لا ريب في مضمونه، ولا شك في أسلوبه، ولا رمزية في رسالته.. "سوريا تتعرض لمؤامرة كونية، إسرائيل شريك فيها، أدواتها ضعاف النفوس من الإسلاميين في الداخل، يتصدى لها الجيش حامي حمى الوطن، والذي يقوده القائد الملهم“.. هذه المقولة إن ارتخى بقولها أي محلل سياسي، أو أي بيان حزبي، أو أية قصيدة لشاعر نشأ على رطوبة اتحاد الكتاب العرب، فإن السينما السورية بعد 2011 كانت بلا شك لا ترتخي ببثها، ولا تغلّبُ أي جانب فني عليها، فلا وقت للفن بالسينما اليوم، لا وقت إلا لأن تكون السينما أداة حربية خالصة.
جود سعيد ونجدة إسماعيل أنزور وعبداللطيف عبد الحميد وباسل الخطيب كانوا عرّابين للفن السابع خلال عشر سنوات، فأنجزوا غالبية منتج المؤسسة العامة للسينما، إنتاجاً لم يسترح من ارتداء البزة العسكرية، ولا تغيّرت ألوانه عن الخاكي، ولا إضاءته عن النار والدخان والقذائف، كان ما أنتجه هؤلاء المخرجون يزيد عما تتطلّبه المرحلة بمراحل، لدرجة أن بعض الأفلام واجهت مقص الرقابة، لا لشيء، فقط لأن ما فيها يزيد عن المطلوب، لدرجة أنه قد يلعب دوراً سلبياً في بث وفهم الرسالة، فقد تمت إعادة فيلم "دم النخيل" لنجدة أنزور إلى معمل المونتاج بعد افتتاحه في صالة الأوبرا بحضور رئيس النظام بشار الأسد، حين أدركت القيادة أن مبالغات أنزور، قد تقود إلى حقد طائفي ما، إذ ظهر الجندي الوفي في الفيلم علوياً ثقيل اللهجة، والخائن درزياً، في فيلم من المستحيل فيه رؤية ذلك لا يرمز بشكل مباشر إلى الطائفتين.
من "نجمة الصبح" إلى "مطر حمص" و"درب السما" و "بانتظار الخريف" و"رجل وثلاثة أيام" تنقّل جود سعيد في الضحالة السينمائية ذاتها، فأنتج من مال القطاع العام، أفلاماً تخلو بشكل تام من أية قيمة جمالية، إلا أنها لامست بلا ريب ما يريده النظام تماماً، شخصيات وطنية تتسم بالخير المطلق، وأشرار معارضون لا خير فيهم، إسلاميون حثالة، بعثيون أبرار، وطن يدمّره هذا ويبنيه ذاك.. وفق مقولة تلك الأفلام، جدلية عفّت عنها برامج الأطفال في أعتى الأنظمة الديكتاتورية منذ ثمانينات القرن الماضي.
أما باسل الخطيب فيستكمل طريقه في التعبير عن افتقاد الموهبة من التلفزيون إلى السينما، بمحاولاته اليائسة لرسم شخصيات نسائية سورية، تعبّر عن الأرض والوطن، من خلال الأم أو الحبيبة أو الأخت التي تهب الحياة للجميع وتصبر على الفقر والفقدان والحسرة بقلبها الكبير من "مريم" إلى "الإعترف" إلى "لآخر العمر" يعيد الخطيب الشخصيات نفسها، بل ويعِدُنا بتخليد الرسالة مع ابنه "مجيد" الذي بدأ يشاركه فنياً بأعماله.
لم تكن السينما السورية يوماً إلا تجلياً من تجليات الراهن العام في سوريا، فكانت فقيرة كفقر الثقافة العامة، تلتف على الرقيب بموضوعات بعيدة عن الهم العام كلياً، تحاول أن تكون نخبوية قدر الإمكان علّها تصل إلى مهرجانات عالمية، في ظل ضعف حضورها المحلي، وانعدام ثقافة السينما في بلاد البعث.. لكنها اليوم مختلفة كلياً، هي الابنة الشرعية للبندقية والسلاح الكيماوي والبراميل ومخرجوها لا تنقصهم سوى رتب عسكرية ليكونوا مقاتلين أبرار في جبهات الحرب المقدَّسة.