- Home
- مقالات
- رادار المدينة
لماذا سقطت مدينة الميادين بهذه السرعة
جاء سقوط مدينة الميادين في ديرالزور بيد قوات النظام وميليشياته مخالفا لكل التوقعات بأن يخوض تنظيم «الدولة الإسلامية» حرباً طويلة قبل أن يخسرها، كما حدث في الموصل والرقة، وتبلورت هذه الفكرة لدى غالبية سكان الميادين، وعموم الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، كما لدى جمهور المتابعين والمهتمين بشؤونه، رغم اعتقاد كثير منهم أن أيام التنظيم باتت معدودة.
يمكن سحب فكرة معركة التنظيم الطويلة في المدينة حتى على أصحاب نظرية التسليم، الذين يرون أن التنظيم سلمها للنظام بموجب اتفاق بين الجانبين، كما أشيع عنه في مكانات أخرى، وهؤلاء ربما كانوا سيتوجهون إلى نظرية أخرى رائجة، يستلهمها الكثيرون في تفسير ظاهرة التنظيم، مفادها أنه صنع لتدمير المنطقة، وذلك في حال خاض معركة طويلة في الميادين. وبين النظريتين عاين ناجون من سكان مدينة الميادين سعي مجموعات في التنظيم، حتى آخر اللحظات، لخوض المعركة حتى نهايتها، لكن الأمور كانت قد تفلتت من أيديهم، وفقدوا السيطرة.
يفيد الواقع الميداني الذي صاحب وتلا سيطرة النظام على المدينة، منتصف الشهر الماضي، أن التنظيم لم تكن لديه نية في الانسحاب منها، خاصة أنه حاول عرقلة القوات المتقدمة بأكثر من طريقة، ثم حاول استعادة المدينة منها عبر جيوب له فيها، قبل أن تقضي قوات النظام على تلك الجيوب، وتتقدم بأكثر من اتجاه في محيط الميادين لتحصين سيطرتها عليها، رغم أن استمرار الاشتباكات، حتى قبل أيام قليلة من الآن في المدينة، يدين بوجوده لدافع ذاتي لدى مجموعات صغيرة من المقاتلين العرب، يمر من خلال إرادة قياداتهم، قبل أن ينسحب منهم مايقارب 30 مقاتل. على أن أسبابا تتعلق بطبيعة الهجوم الذي اتبعته قوات النظام من جهة، ووضع التنظيم قبله في المدينة من جهة أخرى، وما تولد من التقاء هذين العاملين، كان له الدور الأساس في اندحار دفاعات التنظيم، وسقوط المدينة بهذه السرعة.
فوضى وتنازع
بعيداً عن صعوبات التمويل بعد شح مصادره الأساسية من النفط والغنائم، وهروب قادة لديه بمبالغ كبيرة، فقد عانى تنظيم الدولة من تآكل ذاتي أصاب بنيته سريعاً، وتفشى ضدا من رغبة قياداته، وسعيهم إلى تخلي عناصره عن انتماءاتهم وولاءاتهم السابقة لصالح الولاء لدولتهم الجديدة؛ وحيث احتاج التنظيم للكوادر بعد سيطرته المفاجئة على أراض واسعة تضم الملايين من البشر لإدارتها، فقد اصطدم بواقع أجهزته الضعيفة المحدثة لصالح كتلها الاجتماعية المؤسسة، وارتجالية إدارتها من قبل عناصره، وتعارض عمل صلاحيات أحدها مع الآخر، وعدم انسجام وربما صراع بين الكتل المكونة لجيش عناصره في كافة مراكزهم؛ ما دفعه إلى توليد أجهزة رقابية أخرى لمراقبة تلك الأجهزة ومحاسبتها، ثم أجهزة أعلى منها لضبط أجهزة المراقبة ومحاسبتها، في ظل سباق لشد عصب السلطة وملء قنواتها، بفرض تلك الأجهزة رؤى تشريعية وتنفيذية في الحكم، تجلت آثارها في صراعات داخلية مختلفة كان أهمها الصراع بين تياري (الحازمية) و(البنعلية).
تنامت حاجة قيادات تلك الأجهزة لعناصر تقوي أجهزتها، وتفرض رؤيتها، وتحميها من الآخرين في الكتل والأجهزة الأخرى، فكان أن تراجع الولاء للجهاز كذلك لصالح الولاء اجتماعياً، إن كان عشائرياً أو مناطقياً أو إقليمياً أو قطرياً، كما في حالة قادة محليين عدة، أو قادة من لواء داود في وقت مبكر، وطفى الشرخ في حالات متأخرة، كان آخرها تصدر الشرعيين التونسيين المشهد، والذين تم تحجيم دورهم وتقليص نفوذهم منذ شهرين من الآن. إلا أن تنظيم الدولة، وحتى ما قبل معركة الرقة، كان ما يزال يستطيع بفضل قسوة أجهزته الأمنية إدارة تلك التناقضات والصراعات، والتغطية عليها. لم تكن معركة الموصل مفصلية قياساً إلى معركة الرقة، في الجزء السوري على الأقل، من عالم «الدولة الإسلامية» من حيث التأثير على حياة التنظيم الاجتماعية، فالمعركة الأولى كانت مصيرية بالنسبة إلى من قاتل فيها، أما الثانية فتأثيرها جاء مربكاً لقيادة التنظيم، فقد ترك الرقة الكثير من قياداتها وكوادرها بصحبة عائلاتهم باتجاه دير الزور، منذ وقت مبكر من عمر المعركة، ولأن كثيراً من هذه القيادات والكوادر كانت ماتزال على رأس عملها في الرقة (العاصمة)، فقد اصطدمت سلطتها بسلطة قيادات وكوادر «ولاية الخير» في مدينة الميادين، ما نتج عنه (اكتظاظ سلطات) غير منظم، إن صح التعبير، في بقعة جغرافية صغيرة، إلى جانب الشروخ الاجتماعية السابقة، التي تكرست وزاد ضغطها بسبب الخوف من مصير دولة التنظيم الذي صار على المحك، ودفعت إلى السطح ما سماه البعض ممن عاينه (فوضى القرارات) أو (الفوضى الإدارية)، عدا النزاعات التي ظهرت على شكل اعتقالات متبادلة، أو اعتصامات وتظاهرات كتل للمطالبة بالحقوق، أو لجوء كتل أخرى إلى تولي تسيير ذاتي لشؤونها، أو تطبيق ذاتي لأحكامها الخاصة، وسط استسلام أجهزة التنظيم السابقة في الميادين للعجز بانتظار حل من الأعلى أمام سيل القيادات والعناصر، الذي ظل يتدفق إلى الميادين منذ أربعة أشهر، والذي دفع القسم الأكبر من سكان المدينة إلى الاعتقاد أن دخول قوات النظام سيتأخر لشهرين في الحد الأدنى أمام كل تلك الكثافة، لذلك لم يكونوا قد حضروا أنفسهم للنزوح، كما يفيد نازحون من هناك.
الهجوم المفاجئ
ظل النظام حتى وقت قريب في حالة سلبية تجاه تقدم التنظيم، ويمكن النظر إلى الأمر من ناحية كون مساحات كبيرة من الأراضي التي سيطر عليها التنظيم هي جزء من البادية السورية، التي لن تضيف الكثير لمن يمسك بها، بينما ستكلفه حمايتها وإدارتها الكثير. وبينما كانت طائرات التحالف تطارد قيادات التنظيم وعناصره في التجمعات السكانية على نهر الفرات، في حرب التحالف المعلنة منذ خريف العام 2014، تعايش السكان في تلك التجمعات مع أسلوب من القصف الجوي يطارد أهدافاً محددة، ودقيقة نسبياً، رغم المرات الكثيرة التي طالت فيها مدنيين وألحقت خسائر كبيرة في صفوفهم. ومن جانبه تمكن التنظيم نسبياً من تقليص الخسائر التي لحقت به جراء القصف ، معتمداً على طرائق متنوعة للإفلات والتخفي مستغلاً الكثافة السكانية. لكن كل ذلك تغير مع تقاسم مناطق النفوذ في محافظة دير الزور بين روسيا وأمريكا، من ثم حليفهما «قسد» والنظام.
بموجب هذا التقاسم حل الطيران الروسي وطيران النظام منذ شهرين تقريباً، محل طائرات التحالف في الريف الشرقي المحاذي للضفة اليمنى (الجنوبية) لنهر الفرات، ومن حينها بدأت المحاولات الجادة من قبل النظام للإمساك بزمام المبادرة في البادية السورية، حيث المنتصر في أي معركة سيضم، دون تكلفة باهضة، مساحات شاسعة من الأراضي لسيطرته، تضيف لرصيد معنويات قواته الكثير. على أنه، وحتى ما بعد منتصف أيلول، لم تظهر أي علامات على عزم قوات النظام التقدم باتجاه الميادين، إذ كانت عيناه باتجاه حقول النفط في الجزيرة، ومعمل الغاز.
بخطوة قد تبدو مفاجئة بدأت قواته هجومها نحو الميادين، عبر ما يعرف بالطريق الصحراوي الواصل بينها وبين مدينة دير الزور، قبل أن تنعطف جنوباً في البادية حول المدينة ثم تنعطف مرة أخرى وترسم ما يشبه القوس المحيط بها من ثلاث جهات، لتطال قذائفها أحياء المدينة في الرابع من تشرين الثاني الماضي، حين بدأ النزوح الجماعي الأخير من الميادين عبر النهر. ورغم أن التنظيم كان قد تجهز لمعركة من جهة البادية، عبر خطوط دفاعية محكمة في تلك الناحية، إلا أنه لم يصمد، وسط تسرب العنصر البشري التابع للتنظيم، المحبط والمنهار تماما. ومع سقوط الصواريخ الأرضية بكثافة، تزامناً مع الغارات الجوية والبراميل والوسائط النارية الأخرى، لم يجد قادة التنظيم بداً من إخلاء المدينة من سكانها، بالتزامن مع إخراج قادة وعناصر لديه صحبة عائلاتهم. في تلك الأثناء خرج كثير ممن يعول عليهم التنظيم في المعارك، وسط حالة تململ بدت في عناصره السوريين خاصة من قتال لم يعد متكافئاً، ولم يعتادوا عليه، ثم أنه لا يخصهم في المدينة؛ حيث يلعب الانتماء للمكان دوراً حاسما في القتال، وتقبل الموت فيه، وهو مالم يلمسه آخر المدنيين الهاربين من المدينة في اختباء العديد من العناصر في البيوت، بينما لم تجد المجموعات التي تملك إرادة القتال من تجنده أو يساندها في معاركها. وصارت كل محاولة إمداد عبثية، بعد أن اجتازت قوات النظام الساتر (الخط الدفاعي الأول) عن المدينة، في وقت لم يكن فيها للتنظيم من سلاح ثقيل سوى دبابتين، تركزتا في جهة الغرب بالقرب من قلعة الرحبة، وبذلك لم تستطع القوات المدافعة من الاستمرار أكثر من عشرة أيام، فتخلت عن مواقعها، لتتحول المعركة إلى حرب لأسبوع آخر بين الطيران المروحي الروسي ومجموعات صغيرة في الأحياء الطرفية، قبل أن تنسحب هي الأخرى.