- Home
- مقالات
- رأي
قانون الأوقاف... 49 بشار الأسد
لطالما كان الحقل الديني في سوريا مجالاً أثيراً عند نظامي الأسد الأب والابن للتلاعب بالعلاقة بين الناس ومرجعياتهم المتوارثة، وجعل عمليات التحليل والتحريم، التي تتحكم بعمق في مواقف الغالبية العظمى من السوريين من مجاري الحياة اليومية وصولاً إلى المفاهيم المعقدة في الاقتصاد والسياسة والقانون- أداة هيمنة إضافية بيد النظام.
غير أنّ هذا التلاعب كان دائماً مشفوعاً بالاستجابة لحاجة/ ضرورة حاكمة لعلاقة النظام بالاجتماع السوري؛ هي نزعته إلى البقاء والاستمرار في صورته التي يهيمن عليها هوس الثبات والاستقرار غير المرتبط بتحولات الواقع الدولي والإقليمي، وطبعاً السوري الداخلي. الصورة هنا تتعلق برغبته في أن يبدو دائما كما يريد أن يبدو، بصرف النظر عن ديناميات التحول التي لا يؤمن بها، ويخافها في الواقع.
وقد شهدت سوريا، منذ ما بعد مذابح الثمانينات، محاولات عدة لتجاوز هيمنة النظام المخابراتية المباشرة والقامعة على حياة الناس، نحو دمج هذه الهيمنة في قناعات السوريين -المسلمين السنّة بوضوح أكثر- باعتبارها واجبة دينياً، و"محللة" عبر تقنين الولاء، باستخدام وجوه دينية، ومراسم شعائرية مكرورة برتابة الاجتماعات الحزبية، تختزل التدين إلى طقوس تكرّس النأي بالواجب الديني عن إلزامية طلب الحقوق.
في محتواه الظاهر، يندرج قانون تنظيم وزارة الأوقاف الأخير تحت هذا التفسير، لكنّه في بنيته يتفرد بخصيصتي التوقيت والحيثية، التي تجعله أمر عمليات عسكرياً بالمعنى التنفيذي في أولاهما، ومشروعاً طائفياً ببعده الاستراتيجي في المنتهى.
يُظهر النص الأساسي، الذي كشفه أحد أعضاء مجلس الشعب تحت عنوان الدفاع عن العلمانية في سوريا، أنّ المؤدّى الأولي للقانون هو تنظيم عمل وزارة الأوقاف في سوريا، وهو أمر يطرح تساؤلاً مباشراً حول أهمية هذه الوزارة تحديداً، لبدء ما تسمى "عملية التنظيم الإداري" منها دون غيرها؛ علماً أنّ المنطق البسيط سيقود إلى أنّ ثمة جهات "حكومية" أخرى، أكثر أهمية وإلحاحاً لتنظيمها، خصوصاً لجهة تسويق ما يزعم النظام أنّه انتصاره النهائي؛ غير أنّ تضاعيف النص وتعديلاته اللاحقة التي تجاهلت جوهره تماماً، تشير إلى أنّ الغاية النهائية تكمن فعلاً في إعادة رسم الخارطة التحكمية في البلاد، عبر بوابة "حوكمة" الدين كعنوان معلن، أو بدقة أكثر عبر "تعفيش" السنية السورية ضمن مؤسسة معادة التدوير على أنقاض البنية الدينية الرسمية التي ثبت فشلها مع اندلاع الثورة السورية.
يظهر هنا بوضوح ما أطلقنا عليه منذ برهة "التنفيذية العسكرية" في القانون، وهي تركّز على أنّ العائد السياسي والاجتماعي لقمع وإبادة وتدمير حواضر وأرياف السوريين -الإرهابيين حسب التصنيف الأسدي الابتدائي، ثم التكفيريين حسب السردية الإيرانية التي تبناها خطاب النظام الرسمي- يجب أن يكون مشتقاً من إعادة تفسير مرجعياتهم الدينية قبل الوطنية، بمعنى أنّ القانون يفترض مسبقاً أنّ المجموع السوري في أغلبيته المسلمة، التي تتبع مذهب أهل السنة، بات بحاجة إلى ما يشبه "دورة الأغرار" لإعادة رسم شخصيته "المطواعة" التي توهّم النظام أنّه توصل إليها بعد القمع الوحشي في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين.
والواقع أنّ ثمة تفاصيل في طبيعة الاستجابة -والاعتراض- داخل رهط مؤيدي النظام من جميع الأطياف لهذا القانون، تشير إلى إدراك طبيعته العسكرية، والتوافق معها؛ إذ أنّ مجمل الاعتراضات، حتى في داخل مجلس الشعب، وهي اعتراضات كاريكاتورية في اعتيادها المزمن- كانت تنحى إلى التفجّع على "علمانية" الدولة، علماً أنّ بنية مناهضة العلمانية المتصورة داخل المشروع الأخير كانت وما تزال قائمة في استيلاء الدولة/ النظام على صفة "مدير الأديان والمذاهب" في سوريا. بمعنى أنّ اغتيال التدين غير الرسمي والشعبي لأكثرية السوريين، ليس هو المعضلة التي تستحق الاحتجاج، بل في أنّ الدولة منحت سلطة توجيهية، ضمن قانون، لجهة تخترق زيف الفسيفساء الدينية، التي اعتاش نظاما الأسد على الاتجار برعايتها وتمايزها عن العموم المجهول والمغفل.
ومن جهة ثانية، يكشف القانون مآل الأطراف الشريكة في ما يراه نظام بشار الأسد "انتصاره" على السوريين، فهو يعيد ترتيب الدور الوظيفي لرجال الدين السنّة الذين كانوا رأس حربة في حربه -المتواصلة والتي لن تنتهي طالما بقي نظامه قائماً- على السوريين. فالإكليروس الرسمي الذي دجنّه أباه عبر "الأوقاف" و"الفتوى"، سقط مع بدايات الثورة، ليتلخص في شخص المفتي أحمد عبد المجيد حسون، الذي عمل على مدى سبع سنوات من القتل والتدمير والتهجير
والتعذيب حتى الموت لملايين السوريين، على تمييع الفروق بين المشروعية والعدالة، التي يفترضها الدين في الحكم، وبين الاستبداد بصفته واقعاً يجب إعلان الولاء له، بل والترحيب بالخضوع له، انطلاقاً من مهمة قومية شطبها حزب البعث، وأخرى دينية قتلها القانون الجديد. وسيكون على حسون الآن أن يتقاضى أتعابه، بالتحوّل إلى موظف "بعقد مؤقت" عند الحكومة، وهو مصير سيشابه مصير القسم الأكبر من الضباط العملانيين الذين قصفوا وقتلوا دون أن يكونوا من الصفوة "الطائفية" التي تحكم فعلاً.
ثمة نسق "تعفيشي" هنا كذلك، وهو يطابق النهاية الميدانية التي ستحيق بهؤلاء الضباط أيضاً، فالقانون يمنح الوزارة التي بات المفتي، ومن سيطلق عليهم أرباب الشعائر الدينية، وكذلك القوة التبشيرية الاستخباراتية المسماة "الأئمة الشباب"، مجندين لديها لا يملكون حتى حق التنقل والاستقرار -دع عنك الوعظ والإرشاد الديني وتقديم الفتاوى للناس- دون إذن مسبق منها- يمنحها سلطة التحول حرفياً إلى شركة تجارية قابضة. وفي حين أنّ مسار "الغنائم" الهائلة التي تحوز عليها الأوقاف سينتهي عند السلطة المجردة، فإن "أرباب الشعائر" سينالون فقط سخط الناس وسخريتهم.. أليس هذا حرفياً هو منطق التراتبية للضباط الآمرين وصغار العفيشة؟.
يحتوي النص، في إحدى أخطر تجلياته، على إستراتيجية إذعان واضحة، سيتم فرضها "بقوة القانون" على من ستعترف بهم السلطة كممثلين "شرعيين" للأكثرية السورية؛ إذ بينما ما تزال الهيئات الدينية والمذهبية الخاصة بالأقليات تحظى بنوع من الذاتية -بالرغم من استحالة سماح النظام بأيّ استقلالية لتكوين خارج سلطاته- تمنحها هامش وجود، وحركة تؤدي في أحيان كثيرة إلى لعب أدوار تتجاوز الديني نحو تفاصيل "حمائية" لمن تمثلهم، فإن التمثيل الأكثري دينياً ومذهبياً، بات غائماً وعائماً تحت مسمى "المجلس العلمي الفقهي" الذي يندرج ضمن توجه "فسيفسائي" على الطريقة البعثية، لإنتاج تجمع ديني أشبه بالجبهة الوطنية التقدمية، يجمع السنة والعلويين والمسيحين والشيعة وغيرهم في خلطة يراد منها أساساً تفريغ هذا التجميع من أي معنى ذي قيمة.
وفي حين أن القانون لا يستخدم مطلقاً أيّ تعبير طائفي وصفياً لتحديد من يقصد بـ"المسلمين"، فإنّه يحيل بوضوح قاطع مهمة هذا "المجلس الفقهي" إلى مناهضة السنيّة السياسية، عبر تحديد عدوين أساسيين هما جماعة الإخوان المسلمين والحركة الوهابية؛ بينما لايبدو مطلوباً من جهة دينية أخرى في سوريا أن تتعامل مع متطرفيها.. النظام في الواقع لم يعترف يوماً بأيّ تطرف ديني خارج النطاق السنّي، بل إنّه التطرف الوحيد والمفرد رسمياً، ويمكن بسهولة اكتشاف أنّ الادبيات السورية الرسمية -وغير الرسمية للمفارقة- تخلو تماماً من أي إشارة إلى وجود تطرفات قومية ووطنية كحال أي شعب آخر... يمكن رد هذه الظاهرة إلى أن النظام بنسختيه لايعترف بوجود شعب خارج الخطاب العقائدي التعبوي الرسمي.
أياً كان رقم هذا القانون، فهو في جوهره توسيع للقانون 49 الشهير، وهو توسع في الرد على تمرد أوسع، أي أنّه إعادة بناء مضخمّة لعقل حافظ الأسد الأمني، مع إضافة عوامل طارئة باتت جزءاً من صورة النظام، وهذه العوامل ذات المنشأ الإيراني تجد حيزها في التعمية النصية المتعمدة في النص، فالحديث عن أزيد من ألف مدرسة دينية يستبطن حصصاً رسمية للتبشير الشيعي الذي يقوده "أرباب شعائر"، عراقيون ولبنانيون، وبات مرعياً في الإعلام الرسمي بصورة علنية، ناهيك عن شعائريات تشهدها المدن السورية لم تكن موجودة قبل خمس سنوات.
قانون الأوقاف هذا ليس مضاداً لعلمانية غير موجودة، إذ لا علمانية بدون ديمقراطية وحريات، ولا مناوئاً ولا معززاً لفسيفساء دينية مزيفة ومنافقة، ولا خطراً يهدد وحدة وطنية ممزقة.. هو ببساطة تجريم لحق الناس في اختيار طريقة تدينها.