يمسك الطفل عمار (14) عاماً سيجارة بين إصبعيه ويسحب منها جرعة دون خوف أو تردد، ذلك لاعتقاده أنه أصبح رجلاً بعد إدمانه على التدخين وأخذ دور المعيل الوحيد للأسرة بعد وفاة والده في الحرب .
عمار ليس وحده من وقع فريسة التدخين، بل هناك الكثير من الأطفال السوريين وجدوا أنفسهم خلال سنوات الحرب في مستنقعه، وعرضة للأمراض الفتاكة التي تضاف إلى معاناتهم اليومية في سوريا، فوق الفقر والتشرد وفقدان المعيل. في بلد خسرت في الحرب كل ثرواتها، ولم يبق لها من بارقة أمل إلا الثروة البشرية التي يعول عليها في المستقبل لإعادة بنائها .
أم عمار من مدينة إدلب، تروي لعين المدينة معاناتها مع بداية دخول ولدها إلى عالم التدخين، فتقول: "اضطررت للاعتماد على عمار بعد وفاة أبيه، ذلك أنه لم يعد لدينا أي معيل غيره، فراح يعمل في ورشة لتصليح السيارات، ثم فوجئت به في فمه لفافة تبغ فور عودته من العمل." تؤكد الأم بأنها وبخته بشدة وحذرته من مضار التدخين على صحته، لكنه لم يبال وردّ بأنه لم يعد صغيراً.
لعل عمار يستطيع تأمين ثمن علبة السجائر الخاصة به من مردود عمله، لكن الكثير من الأطفال يلجؤون إلى طرق ملتوية لإحضارها، ومنهم الطفل محمد قندح (12 عاماً) من معرة النعمان الذي يلجأ إلى السرقة من جدته لشراء السجائر، وعن ذلك تشتكي الجدة بقولها: "فقد محمد والده نتيجة إصابة حربية، فتزوجت والدته من رجل آخر وبقي في عهدتي، ومنذ أشهر بدأت ألاحظ اختفاء بعض النقود من الخزانة بين الحين والآخر، وعندما واجهت حفيدي بالأمر وبعد سؤال أصدقائه اكتشفت بأنه يلجأ إلى السرقة لشراء السجائر."
كذلك في المدارس ينتشر التدخين، حيث لم يعد للكادر التعليمي أي سلطة على تلاميذهم المدخنين، وسط تراجع دور المدرسة وعدم وجود مرجعيات فاعلة لردع الأطفال عن ذلك، وهذا ما تؤكده المدرّسة ختام الحمزة من ريف إدلب بقولها: "التدخين خطر يحف حياة الأطفال ويؤثر سلباً على نضوج عقولهم، والطفل السوري لم يعد يعاني من خطر الحرب فقط والتلوث البيئي ونقص الغذاء، بل انتقل إلى أبعد من ذلك بتلوث الفكر وغياب الوعي."
وتضيف الحمزة: "اشتكى بعض الطلاب بأنهم شاهدوا أحد زملائهم يدخن في دورات مياه المدرسة، وعند تفتيشه وجدت لديه علبة تبغ، لكنه أصر على أنها لوالده وقد نسيها في حقيبته، وعند عرض الأمر على الأب أيّد ادعاء ولده."
عبد الهادي الكردي (13 عاماً) من معرة النعمان اعتاد على تدخين الأرجيلة منذ سنة، وعن سبب ذلك تقول والدته: "زوجي كثير التغيب عن المنزل، وعصبي المزاج -عند تواجده- وقاس على ولده عبد الهادي، إذ يضربه ويوبخه باستمرار، ومنذ فترة أدمن على تدخين الأرجيلة رغم رفضي الشديد لذلك، وكأنه اتخذ منه وسيلة لتحقيق ذاته والتمرد على المجتمع، والرغبة بالتغلب على اليأس وعدم القدرة على تغيير الواقع الاجتماعي، وفرصة للتخلص من الشعور بالخجل والانطواء."
المرشدة النفسية رحاب المعراوي من معرة النعمان تتحدث لعين المدينة عن أسباب انتشار ظاهرة التدخين بين الأطفال بقولها: "عادة التدخين عند الأطفال ليست جديدة، ولكن في ظل الحرب بتنا نشاهدها بشكل علني في المطاعم والشوارع وحتى في المدارس، حيث يقع على الأطفال ما يقع على المجتمع من الضغوط النفسية والمشاكل الاجتماعية بسبب حداثة سنهم وضعف بنيتهم الجسدية والنفسية."
وتعتبر المعراوي أن رغبتهم في تقليد الكبار من أكثر الأسباب التي تؤدي إلى تدخين الأطفال واليافعين، لأن البيئة الحاضنة المساعدة من أهل وجيران وأقارب وأصدقاء لها الذنب الأكبر، ناهيك عن انتشار المشاكل الأسرية التي تؤدي إلى الطلاق وتدمير الأسرة، وما ينتج عنها من انحراف الأطفال وسلوكهم لمنهج غير سوي في الحياة، فضلاً عن غياب رقابة الأهل والقدوة السيئة ورفاق السوء، وعدم وجود رقابة على بائعي التبغ."
لذلك تقترح المعراوي ضرورة الحد من الظاهرة من خلال حملات التوعية والإرشاد والجلسات الحوارية التفاعلية، لاسيما في المدارس ومراكز التوعية لتعريفهم بمخاطر التدخين وأضراره الصحية، مشيرة إلى ضرورة مناقشة الإقلاع عن التدخين مع الطفل بطريقة لا تجعله يخاف من العقاب، وأن يكون الوالدان قدوة لأطفالهما في عدم التدخين، وزرع الثقة في نفس الطفل والتعرف على همومه تمهيداً لحلها .
وعن أضرار التدخين على صحة الأطفال يتحدث الطبيب أحمد الشيخ من ريف إدلب بقوله: "يزيد التدخين من خطر الإصابة بالربو وأمراض الجهاز التنفسي، والالتهاب الرئوي، إضافة إلى زيادة الإصابة بأمراض الأذن والأنف والحنجرة."
كما يؤكد الشيخ بأن جلسة تدخين واحدة للأرجيلة تعادل تدخين (125) سيجارة، حيث يستنشق المدخن خلالها مقداراً أكبر ب25 مرة من القطران، ومرتين ونصف المرة من النيكوتين، و10 مرات أكثر من غاز أول أكسيد الكربون السام، حيث يزيد هذا الغاز من خطر الإصابة بالسكتة الدماغية وأمراض القلب والسرطان، عدا عن الرصاص والزرنيخ وغيرها من المواد السامة التي يستنشقها المدخن عند تدخينها.