- Home
- مقالات
- رادار المدينة
في العيد.. أبي يقيم في بقايا بيتنا حفلة شواء
في ليلة العيد يجهز والدي لوازم الشوي (المنقل والسياخ وكيلو واحد من اللحم). سيختار اللحم كيفما اتفق لأن مشواره سيكون للتمتع بالمكان لا بالطعم، وسيمضي مع أمي إلى بيتنا أو بقاياه في داريا بريف دمشق، حيث سمحت قوات النظام منذ فترة بالدخول إليها، بعد أن دمرت المدينة وهجرتنا منها وعاثت فيها فساداً.
ذلك البيت الذي ولدت وعشت طفولتي فيه، وتركناه منذ قرابة ثماني سنوات كل منا ذهب في جهة، عاد أبي ليجمع بقايا أحجاره التي لا تزال في مكانها، ولم تستطع ألسنة اللهب التي أحرقت كل ما في البيت من التهامها. لم يعد البيت على حاله، كل شيء تغير فيه، إلا أنني أشعر بأن الروح هي ذاتها عالقة في البيت، وأبي يرحل هناك .
أذكر أن الحارة التي يقع فيها بيتنا واسعة جداً، أو ربما هذا ما يخيل لي لأني لم أتأمل بما يكفي أبعادها عندما كنت أسكن فيها، كنت أصغر من أن أعي حجم الفقد الذي سأشعر به بعد أن أغادرها، خاصة أن البعض قد لا يمنحها تسمية حارة، لأن المنازل تتوزع فيها بشكل متفرق، بينما يصطف بيتنا وبيت عمي وعمتي ملتصقين ببعضهم البعض باتجاه واحد، ويفصلهم عن باقي منازل الحارة ساحة كبيرة كنا نتخذها ملعباً لكرة القدم.
حارتنا لم تكن خط تماس، لذلك لم تتحول جدران بيوتها إلى غربال من الاشتباكات، كما لم تسقط بقصف مباشر، ظلت معظم البيوت على حالها لم تسوّ بالأرض كما هو حال معظم المدينة، لكن تولى تخريبها عناصر النظام، فعفشوا كل ما فيها من أثاث، سرقوا أسلاك الكهرباء واستخرجوا حديد السقوف.
أخبرني والدي أن منازل الحارة رمم أكثر من نصفها، سكانها عانوا جداً خلال سنوات النزوح، ومع السماح لهم بالعودة عمد من عاد إلى ترميم البيوت كيفما اتفق، مثل أم ماهر التي تسكن خلفنا، فقد عادت مع أحد أبنائها وجهزا إحدى غرف المنزل الكبير بنافذة وباب، في حين لم يعد من تلقى صدمة كبيرة مثل أرملة جارنا أبو حمدي، الذي قضى برصاص قناص أثناء محاولته مغادرة المدينة.
يصر والدي على إعادة تأهيل البيت، لم يقتنع ببيعه أو تأجيره، كما لم يقرر بعد أنه سيعود للسكن فيه، أما أمي فترفض الفكرة تماماً. تقول لي في اتصال عبر الوتساب: "كيف بدي ارجع، وكيف ما اطلعت بتذكر الكن شغلة بهالبيت!". لكن أبي يحرص على أن يعيد البيت كما كان، وكانت أول أعمال الصيانة التي بدأها في الحديقة التي تتوسطه، حيث لا تزال جذور اللبالبة صامدة، وبعد عودة العناية لها لأشهر قليلة عادت لتملأ الجدار، كما جلب أبي بعضاً من دوالي العنب وأعاد زراعته بنفس المكان الذي كان فيه قبل أن يموت.
حول هذه الحديقة كنا نلعب أنا وأخوتي في العيد، وكان والدي يشوي اللحم بينما تعد أمي السلطة، وهما اليوم سيفعلان ذات الطقس ولكني وأخواتي لسنا هناك.
كنا أربعة فتيان وصبية هي أول من فارقت العائلة بمرض عضال قبل الثورة بسنوات عدة، أما أخي الكبير فقد اعتقلته قوات النظام منذ 2014، وأخي الصغير دهسته سيارة لقوات الأمن وسط العاصمة، والآخر اضطر إلى السفر بعد أن نجى من قضبان السجن مرتين، أما أنا فمن معتقل إلى حصار إلى تهجير صرت فيه أباً بدوري.
أذكر أن أبي كان شديداً فيما يتعلق بأثاث المنزل والحديقة، لا يسمح لنا بالعبث بها، أو أن نرمي بزرة بطيخ فيها. كانت تقوم الدنيا ولا تقعد. كنا نعرف طبع والدي ونتحاشى زعله، إلا أن الأطفال الصغار الذين كانوا يأتون لزيارتنا مع أهلهم كانوا ينالون من غضب والدي.
أتساءل أحياناً؛ إذا اقتربت بناتي من حديقة والدي هل سيصرخ بهن؟ أم أنه سيحتضنهن وهو يراهن لأول مرة منذ ولادتهن.
بمكالمة على الوتساب تلقي أمي على مسامعي نكتة حزينة؛ تسألني هل ستأتي لزيارتي أول أيام العيد؟ ماذا تحب أن تفطر؟ لا تنس إحضار عائلتك معك... تضحك وتحاول أن تكتم غصة، وأتظاهر بالضحك وأسألها "كيفو بابا؟"، لكي أتهرب من دموعها التي أسمعها في صوتها.
أبي اليوم سيأخذ والدتي ليتناولا الشواء على حجارة بيتنا، ربما سيتاح لهما هناك سماع أصواتنا دون شبكة إنترنت، لربما لا تزال عالقة بين أحجار البيت وبقاياه بقايانا، هناك لن يخجلا من أن يذرفا دموعهما معاً دون أن يصبّر أحدهما الآخر، وسيدخل دخان الشواء في عينهما ليخفي بكائهما. وسيلتقط أبي صوراً من كل زاوية في البيت من أجلي، وأمي ستبحث بين جدرانه عن صورة قديمة تسترجع فيها طفولتنا.
لست متأكداً من أن أبي يعرف بيت الشعر الذي يقول "البيوت تموت إذا غاب سكانها"، لكنه يحاول أن لا يموت بيتنا، ويجاهد أن يتحمل عناء الشوق بالوقوف على أطلال المنزل العتيق، وتبتهل أمي بالدعاء.