- Home
- مقالات
- رادار المدينة
في البوكمال اليوم: خدمات زائفة والحرس الثوري أرحم بالأهالي من النظام
تتوالى الفيديوهات والصّور التي يلتقطها عائدون إلى مدينة البوكمال، إلى جانب تقارير دعائية تبثّها وسائل إعلام النظام عن عودة الأهالي، والخدمات التي تتوفر باطّراد. ما يغيب عن المشهد سيطرة حجاج الحرس الثوري الإيراني وآليات تعاملهم مع الأهالي، والوعي الجديد الذي يُشكله هذا التعامل، إلى جانب هزال الخدمات والتزييف الإعلامي لخداع النازحين وإقناعهم بالعودة إلى المدينة.
تُقدّر تقارير إعلامية موالية للنظام نسبة العائدين إلى البوكمال بالثلث تقريباً، فيما يرفض نازحون عنها هذه النسبة، ويؤكد عدد منهم، في أعلى تقديرات، أن من يقيم اليوم في البوكمال لا يتجاوز (5000) نسمة، جاء معظمهم من مناطق خاضعة لسيطرة النظام، ولم ينزحوا خارجها من قبل. ويُنبّه بعض أبناء المدينة إلى استعمال العائدين إلى القرى المجاورة (السويعية والهري والسكرية) في صور ومقاطع فيديو دعائية، يُحشدون فيها في ساحات المدينة وشوارعها كأنهم من أبنائها، وبالاستفادة من خدمات شخصيات عشائرية مؤيدة للنظام، وظلت إلى جانبه في السنوات السابقة، قبل أن تُرافق الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات (عراقية وأفغانية وباكستانية) التي دخلت المدينة، وسيطرت عليها في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، كما جاء في تقرير سابق (أخبار البوكمال وحكاياها) لـ عين المدينة.
في موجة النازحين الأخيرة، التي زامنت الهجمة العسكرية نهاية السنة الفائتة على البوكمال، لم يبتعد كثيراً بعض سكان القرى القريبة عن ديارهم، فيما رافق البعض الآخر أبناء المدينة إلى منطقة سيطرة داعش في الضفة اليسرى لنهر الفرات، في طريقهم إلى مناطق سيطرة (قوات سوريا الديمقراطية) حيث بقي جزء منهم فيها، وأكمل الجزء الآخر رحلة نزوحه إلى مناطق (قوات درع الفرات) في محافظة حلب، ثم باتجاه إدلب، وقلّة من هؤلاء استطاعت دخول الأراضي التركية.
وفي محلات نزوحهم، يتداول أبناء البوكمال أخباراً يومية تُفيد بهجوم وشيك لتنظيم داعش يستعيد فيه السيطرة على المدينة، أو هجوم لفصائل الجيش الحر من قاعدتهم في منطقة التنف على الحدود العراقية جنوب البوكمال، ويتبنى كثيرون الرأي القائل بأن الولايات المتحدة تسهل حركة التنظيم وهجماته ضد الميليشيات الشيعية، لإضعاف الطرفين قبل طردهما معاً، والسيطرة في المحصلة على مدينة البوكمال. تُغذي هذه الأنباء، أو تختلقها، حماسة وأمل بعودة قريبة إلى البلد الذي لا يمكن أن يعودوا إليه، حسب ما تقول أغلبيتهم ويشي تشبثهم بالنزوح، طالما ظلت أعلام النظام وإيران وحزب الله والميليشيات الأخرى مرفوعة فيه.
الحرس الثوري أرحم بالأهالي من النظام
يقول نازح شاب من البوكمال يُقيم في مدينة الباب "وجّه لي واحد من المعارف دعوة للنزول إلى البوكمال، قال لي: تعال للمعبر استقبلك أنا والحجي. تتفل على العقيد (الحجي لقب خاص لأي شخصية قيادية تابعة للحرس الثوري الإيراني، والحجي المقصود من كلام الشاب يُلقب بذو الفقار)". يشرح الشاب بأن قريبه كان تاجر آثار بقي في المدينة عند دخول القوات المُهاجمة، ثم أصبح وجيهاً معتمداً لدى الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني، ويُقدم الأخير مزايا عدّدها الشاب براتب جيد قياساً للمعيشة، وحصانة تبعد عن منتسبيها شبح ملاحقة أجهزة النظام أو تصفية حسابات يقوم بها منتسبون محليون لميليشياته.
يمثل تاجر الآثار السابق النوع الأول من الوسطاء الناشطين اليوم في ملفّ العودة، ويعمل بتوجيه وإشراف مباشر من شخصيات سورية، أو عراقية أو لبنانية، شيعية المذهب في الغالب، ترتبط بدورها مباشرة بخلية تابعة للحرس الثوري الإيراني. وفي السياق ذاته يُمثل الوسطاء التابعون لأجهزة أمن النظام النوع الثاني، وعلى من يُقرر الرجوع إلى البوكمال من مناطق خارجة عن سيطرة النظام أن يختار طريقه بعناية، ووفق نوع الوسيط الذي استدرجه للعودة. حيث يتوجب على العائدين برعاية الحرس الثوري أن يتحاشوا مؤقتاً المرور عبر حواجز النظام، ونقاط تفتيشه المنتشرة بتباعد، يزيد وينقص من طريق إلى آخر في مناطق سيطرته، وإلى حين وصولهم إلى أول حاجز أو مقر لميليشيا تابعة للحرس الثوري في محيط البوكمال. أما من يعود بوساطة أتباع مخابرات النظام، فمن الضروري أن يمرّ بمدينة دير الزور أولاً، قبل أن يكمل طريقه إلى مدينة البوكمال.
بكل الأحوال، صارت البوكمال محاصرة من (المربع الأمني)، الذي يشمل كل الكتلة السكنية الممتدة من (دوار الطيارة) حتى (ساحة الفيحا) وباتجاه البادية، أي ما يساوي تقريباً نصف مساحة المدينة، بما فيها من دوائر وأبنية حكومية، ويضم الآن مقرات جميع القوى العسكرية المسيطرة على البوكمال ومحيطها. على أن تلك الكتلة، وبالذات حي الجمعيات، هي نقطة جذب المُعفشين ولصوص ممتلكات الأهالي الغائبين عن بيوتهم. التعفيش هناك أخذ شكلاً من البيروقراطية، الذي يجعل الحصة الأكبر للقائد أو الضابط الأعلى رتبة في ميليشيات النظام أو قواته: بأن يدلي أحد المُقربين لميليشيات الأجهزة الأمنية بمكان أغراض ثمينة، خلّفتها هجمة التعفيش الأولى عند السيطرة على المدينة، ثم يحتسب له القائد مبلغاً مالياً مناسباً لقاء ذلك، أو أن تأخذ عائلة عنصر في الميليشيات إذناً بدخول الجمعيات لتفقّد ما يدّعون أنه بيتهم، وهناك يجمعون ما يتيسر حمله على العنصر ليلاً.
يروي المتضررون أو المتذمرون من مظاهر النهب والسرقة الممنهجة، سواء كانوا في البوكمال أو خارجها، حكايات عن محاولات أتباع الحرس الثوري التصدّي لهذه المظاهر وردع اللصوص، وحماية الأملاك الخاصة، التي تمتد أحياناً لحماية الأهالي من تعدّيات أتباع النظام. وينجح الحرس الثوري وميليشياته ببث دعاية شفوية تمايزهم عن قوات النظام وميليشياتها الهمجية المتوحشة، وتبرزهم بصورة أرقى وأرحم بالناس، الذين لا يجدون سوى ممالأة الفريق الأول وسيلة لاكتساب حماية ما، أو الانتساب له -حتى لو كان انتساباً اسمياً بالتخلي عن الراتب- وإلا سيكونون عرضة لمخاطر شتى، تبدأ لدى فئة الشبان بالسّوق الإجباري إلى الجيش، كمجندين أو للاحتياط، وتنتهي بالاعتقال الأمني وربما الموت تحت التعذيب.
غير أن هذه الحماية من جانب الحرس الثوري لن تكون مجانية بأي حال، فهي وسيلة وخطوة أولى على طريق خطر قد ينتهي بالتشيع، وهو الهدف النهائي له. لكن الانتقال إلى المذهب الشيعي، بتأثير الانتساب إلى الميليشيات التابعة للحرس، والعيش في كنفها، مازال بعيداً، أو غير وارد اليوم، حسب ما يحلل البعض، لكن التورط معها بالتدريج يجعل الانسحاب منها أمراً شديد الصعوبة في المستقبل.
دعاية الخدمات
قبيل، وأثناء المعارك بين تنظيم داعش وقوات مشتركة تضم ميليشيات متعددة الجنسيات تابعة للحرس الثوري الإيراني، إلى جانب حضور شكلي لقوات النظام وميليشياته، نزحت الأغلبية الساحقة من سكان المدينة، في آخر موجة نزوح كبرى (سبقتها موجات أخرى في الأعوام السابقة) وامتنعت عشرات العائلات في حيي طويبة وضبيعة الشعبيين عن النزوح، جمعتها الميليشيات لاحقاً في حي طويبة، الذي تمتع بهامش ضئيل من الاستقلالية عن داعش خلال الأشهر الأخيرة من عهد سيطرتها على البوكمال، والذي ظل بمنأى عن القصف ثم بعيداً عن المعارك التي انتقلت إلى المدينة.
شكلت تلك العائلات نواة تجمّع حولها قسم من نازحي البوكمال العائدين من دمشق، واستقر آخرون في حي ضبيعة. ومع الوقت أُديرت مولدات الكهرباء الخاصة في الحيين من قبل أصحابها أو وكلاء عنهم، ووصلت المياه إلى البيوت، وافتتح مركز صحي وحيد في قرية السويعية خارج المدينة، إلى جانب مشفى الهناء التي تحولت إلى مشفى عسكري، كما انحصرت خدمة الهاتف بـ"مقسم عسكري" يخدم خمسة وعشرين "خط هاتف" موزعة على الميليشيات والمجموعات التي تنتشر في المدينة.
أغلقت المدرستان اللتان كانتا تستقبلان طلاب البوكمال أبوابهما مؤخراً، بعد انتهاء العام الدراسي، لكنهما لم تكونا لتجتذبا أحداً من أبناء حي طويبة، حيث تقع الأولى، أو حي ضبيعة حيث الثانية، لولا الثياب والحقائب والطعام الخاص بالمنظمات الإنسانية الذي يُوزع فيهما، كما تشرح إحدى النساء المتواجدات في البوكمال، لأن في المدينة "كلشي ما بي. بي مي وخضرة وتكسي ابن غنام وطرطورة وضاح (عربة بثلاث عجلات)" غنام المعني هو رئيس البلدية المتمسك بمنصبه منذ ما قبل الثورة، أما وضاح فأحد "دراويش البلد".
تظهر "طرطورة وضاح" في أكثر من فيديو يدعو الأهالي للعودة. الفيديوهات مصورة بالقرب من (دوار المصري)، المكان الوحيد الذي يشهد حركة مرور للسيارات وتجوّل بعض المتسوّقين من عدة محلات شبه فارغة، وحيث تبدأ سيطرة ميليشيا الحشد الشعبي العراقية، والتي تمتد لتشمل قرية السويعية فالهري ثم الحدود السورية العراقية. الامتداد يشهد حركة مرور نشط للسيارات، الخاصة بالمسروقات من البوكمال والمواد الغذائية من ديرالزور، والمتوجهة إلى حصيبة، مقابل خمسة آلاف دولار لصالح الحشد الشعبي في الطرف السوري عن كل سيارة، بحسب أحد التجار.
متداولة على الإنترنت لقاسم سليماني في البوكمال