- Home
- مقالات
- رادار المدينة
عمارة أبو رسول في منبج ثورة لا تنتهي
«عندما قررنا بناء عمارة تؤوينا، لم نكن نتصور أن بناءها سيستغرق كل ذلك الوقت، قتلتْ أبي وسلبتْ كل ما نملك من مال»، هذا ما ذكره الحاج رسول السعيدي راوياً تفاصيل بناء العمارة التي شهد تشييدها مختلف مراحل الثورة، وصادق على بنائها أكثر من سلطة ودولة.
بداية البناء
كان القرار قد اتّخذ ببيع بيتهم في حي طريق الباب، مع دخول الجيش الحر إلى مدينة حلب في 2012، بعد أن اتفق الأخوة الثلاثة ووالدهم على الانتقال إلى العيش في منبج، مسقط رأسهم، التي يملكون فيها قطعة أرض في شارع الرابطة غرب منبج مقابل مشفى بركل بمساحة 130م. أراد الأب، بالمبلغ الذي تحصل عليه، أن يبني محلات تجارية وثلاثة طوابق يجمع فيها أبناءه، ويعتاش من المحلات وريعها.
البداية كانت سلسة، خاصة مع غياب قوانين ترخيص البناء وبيروقراطيتها زمن الثورة، في بداية 2013 كانت أعمدة المحلات قد ارتفعت، وبدأ الأب بمرحلة الإكساء.
البرنس يقتل الأب
في الطريق إلى متجر لبيع الإسمنت أوقفت مجموعة، تابعة للجيش الحر كتائب الفاروق التي يتزعمها شخص يدعى البرنس، أبو رسول، وطلبت إليه النزول من السيارة لأن الكتيبة بحاجتها لخدمة الثورة، وحين رفض النزول منها هدده أحد العناصر ببندقية كانت في يده، «بعد ملاسنة بينهم أطلق العنصر النار على والدي في كتفه الأيسر، وبعد يومين في المشفى فارق الحياة» يتذكر فارس ما حدث، يُطرق برأسه «هيك مات على عينك يا تاجر، واسودّت الدنيا في وجهنا، وقررنا إيقاف البناء».
بعد أربعة أشهر كان لا بد لهذا البناء أن يكتمل، فالشقة الوحيدة التي جمعت الأخوة الثلاثة لم تعد تتسع، والإيجارات بدأت بالارتفاع. في الشهر السابع من عام 2013، بدأ رسول بكسوة الطابق الأول من العمارة.
العمارة وداعش
في الشهر الأول من عام 2014، بدأت قذائف الهاون بالسقوط على منبج من كل حدب وصوب، وفي العشرين من الشهر نفسه استيقظ الجميع على أصوات وأناشيد الدولة المنتصرة الجديدة، «الوجوه غير الوجوه والبرنس وربعه قد اختفوا من المكان».
لم تكن البدايات الأولى لحكم داعش في المدينة مريحة لسكانها، وكان الخوف من المصير المجهول والارتباك هو الدافع الفعلي لتوقف معظم أعمال البناء، فقد كان قصف المدينة حديثاً تتناقله الألسنة بخوف.
توزع الأخوة الثلاثة في الطابق المعمر والآخر «غير المكسي»، ريثما تستقر الأمور. بدأت الأسعار بالتضاعف لمرات كثيرة، «لمتُ نفسي كثيراً أني لم أكمل البناء في وقتها».
في نهاية 2014، جهز رسول الطابق الثاني، وواحد من المحلات الذي قام بفتحه كصالة انترنيت، أغلقتها داعش بعد أشهر قليلة. وكان عليك لإكمال الطابق الأخير أن تحصل على رخصة بناء، كان يتراوح سعرها في ذلك الوقت بين (100-500 ألف ليرة) بحسب مكانه، بالإضافة إلى شروط للترخيص كانت تختلف في كل مرة. وحين أراد رسول، بعد تأمينه للمال، إكمال البناء أصدر التنظيم قراراً في 28/9/2015منع بموجبه البناء في منبج. لاحق الندم رسول في كل مرة «فالبناء الذي لم يكتمل بات يشكل عقدة لي، صار يطاردني في أحلامي».
قسد والنزوح الأول
في الشهر الخامس من 2016، بدأت طائرات التحالف ومدافع الكرد تهوي فوق رؤوسنا، كان القرار إرسال الأطفال والنساء إلى قرية البطوشية القريبة مع سعيد (الأخ الأصغر)، وبقاء رسول وملحم في البناء، «فالدواعش كانوا يستولون على الأبنية الفارغة ويفخخونها بعد الخروج منها». شهران ونصف الشهر قضاهما رسول وملحم وسط هذا الموت والدمار، «أبو علي جارنا مات وهو يحاول الحصول على ربطة خبز لأطفاله، قتله قناص التنظيم، بقيت جثته مرمية على الأرض لأيام دون أن نستطيع الوصول إليها»، غابت الكهرباء والماء ونفد الغذاء، يقول رسول «كلما نظرت في البناء كنت ألومه أو ربما ألوم نفسي على فكرة البقاء».
في 15/8/2016، تناهى لسمع رسول صوت رصاص قريب، وأصوات رجال يتكلمون عبر مكبر للصوت، أصغى، كان الصوت القادم يعلن دخول «الديمقراطي كما أسماه» إلى منبج، «خلصناكم من داعش اشلحوا الاسود وحلقوا دقونكم والمقطوع من الدخان نعطي كروز».
عادت العائلة بعد أيام قليلة إلى البيت، ولم تشهد الأشهر الأولى أي حركة عمرانية أو اقتصادية، على الرغم من تأسيس ما عرف ببلدية الشعب في منبج في 15/9/2016.
بعد ستة أشهر بدأت أسعار مواد البناء بالتراجع، وشهدت منبج نهضة عمرانية جديدة في الأحياء كافة، خاصة في حي الرابطة والحزاونة، شجع ذلك رسول على بناء الطابق الأخير «تنفيذاً لحلم والده، ورغبة منه بإنهاء البناء الكابوس».
هذه المرة كان عليك أن ترخص البناء في بلدية الشعب، كانت الأوراق المطلوبة «إثبات الملكية، وطلب ترخيص نافذة واحدة من البلدية، وموافقة الجوار، وموافقة كومين الحي، ومخططات هندسية من نقابة المهندسين»،
يضاف إلى ذلك مبلغ 165 ليرة عن كل متر بناء، في حال تمت الموافقة على الرخصة.
الشروط لم تكن صعبة التحقيق، ولكنها «تحتاج إلى وقت ومصروف جديد، فليس لدينا مخططات هندسية والأرض باسم والدي الذي قتل». استغرق استكمال الأوراق ثلاثة أشهر، وحين بدأ رسول برفع أعمدة الطابق الثالث بدأت أصوات المعركة من جديد «توقفت جميع ورش البناء منذ معركة عفرين، لم تعد ترى إعماراً إلا في الأبنية التابعة لمؤسسات الدولة والحدائق العامة وبعض الأرصفة، على الرغم من هبوط سعر معظم مواد البناء لقلة الطلب، ولكن الجميع في انتظار ما ستؤول إليه المرحلة القادمة».
دولٌ مرّت على بناء أبو رسول، وأسعارٌ وأحجارٌ ووجوهٌ مختلفة، في انتظار أن يكتمل.