- Home
- مقالات
- رادار المدينة
عزلة مخيمات كللي في إدلب.. والعيش في بداوة اضطرارية
يمكن تلخيص واقع المخيمات في شمال غربي سوريا بأنها خيام مشتتة. أسقفها عبارة عن أغطية من النايلون، بنيت على عجل في أماكن جبلية متفرقة خوفاً من السيول في فصل الشتاء، فوقع قاطنوها من النازحين ممن ضاقت بهم السبل بمشاكل أخرى بسبب العزلة الكبيرة التي أحيطت بهم، وصعوبة وصولهم إلى احتياجاتهم الضرورية والملحة.
في جبال كللي النائية، التابعة لمعرة مصرين، وفي ساعة متأخرة من الليل شعرت وردة (٣٠عاماً) بألم شديد في كليتها، وتحيرت في السبيل لإسعاف نفسها لبعد المخيم الذي تعيش فيه عن مراكز المدن والبلدات، ما يعيق ذهابها إلى المستشفيات والمراكز الصحية، في حين لم تستطع طلب المساعدة من أحد جيرانها لخوفها من أن تسبب لهم حوادث أو عمليات سطو وسرقة بعد منتصف الليل في الطرق الجبلية التي تعج بقطاع الطرق واللصوص، فما كان منها إلا أن أمضت ليلتها تكابد الألم حتى الصباح.
تقول وردة التي نزحت عن معرة النعمان بعد أن فقدت زوجها: "أن تعيش المرأة دون رجل أو معيل هو أمر بالغ الصعوبة، فكيف سيكون الحال بها في هذه المخيمات البعيدة أيضاً، والتي أنستنا حتى إنسانيتنا حين وجدنا أنفسنا هنا منسيين بلا قيمة ولا أدنى اهتمام من أي جهة".
لا يتوفر للكثير من المخيمات النائية والعشوائية مراكز صحية أو خدمية، ويضطر من يريد الذهاب إلى إحدى المدن أو البلدات إما الاستعانة بإحدى سيارات قاطني المخيم مقابل أجر مادي ليس بالبسيط، بالنسبة إلى نازحين بالكاد يؤمنون أقوات أيامهم، أو أن يقفوا على أطراف الطرق الرئيسية بانتظار من يقف ليقلهم من السيارات المارة.
تواجه الستينية خديجة الحلبي القاطنة في مخيمات دير حسان صعوبة كبيرة في تأمين من يقلها إلى العيادات الخارجية في مدينة إدلب، لتتلقى علاج أمراض القلب وآلام المفاصل والظهر بشكل مجاني، وتقول "لا سبيل لدي سوى انتظار أحد الجيران ممن يمتلكون سيارة في المخيم، لأرافقه حين تكون وجهته إدلب، ورغم شعوري بالخجل لفرض نفسي على الآخرين، فليس لدي حل آخر.. لا أملك أجرة سيارة خاصة ولا حتى سيارة عامة".
وتشكو الحلبي التهميش وعدم المبالاة من قبل المعنيين الذين يغضون الطرف عن شؤون سكان المخيم البائسين، والذين حرموا من أبسط حقوقهم في الوصول الآمن للخدمات الصحية والإسعافية في الحد الأدنى. وتتسائل قائلة: "هل فعلاً يصعب على منظمات المجتمع المدني تخصيص ولو سيارة واحدة لكل مخيم لإسعاف الحالات الطارئة والملحة، إذا كانوا عاجزين عن تأمين مراكز صحية في مخيماتنا المنسية، أم أن معاناة أهالي هذه المخيمات باتت آخر اهتماماتهم؟!“.
لكن ما لا يلاحظه سكان المخيم ذاتهم هو عزلتهم الاجتماعية. فعلى المستوى الاجتماعي، تجعل المخيمات من سكانها يفقدون أي تواصل مع محيطهم، ما يجعل إدلب البقعة المكتظة بالسكان فقيرة بالتواصل والاحتكاك، الذي يقتصر على أفراد الجماعة الصغيرة التي بطبيعة الحال هُجّرت من مناطقها بشكلها الأهلي، وسكنت في الخيام محافظة على تركيبتها الاجتماعية، دون أن تتماهى مع المجتمع الكبير. لكن إهمال المخيمات النائية لا يقف عند حد العزلة الفيزيولوجية التي يعيشها النازحون فيها، بل تعداه إلى العزلة النفسية التي فاقت كل التصورات.
يجلس خالد (30عاماً) أمام خيمته بينما يرنو ببصره إلى الأفق البعيد، وملامح وجهه تحكي الكثير من قصص المعاناة اليومية، ويقول وقد بدا عليه اليأس من كل شيء: "افتقارنا لأبسط الضروريات وانعدام فرص العمل ما هي إلا غيض من فيض، نشعر هنا بالقلق والاكتئاب، فكل من حولنا ينبذنا، بتنا منفيين في أوطاننا".
حتى الأطفال يطغى على وجوه غالبيتهم خبوت روح الطفولة وجموحها، يشاهدهم من يزور المخيم يجلسون صامتين ويحجمون حتى عن الرد على من يخاطبهم.
بإجابة مقتضبة بعد تأنٍّ شديد، قالت الطفلة علا (11عاماً) إنها لا تحب هذا المكان، فهو أشبه بالسجن الكبير، لا مدارس ولا تعليم ولا تسلية ولا ألعاب ولا ملاهي، وتتمنى الطفلة النازحة من مدينتها سراقب أن تعود سريعاً إلى بيتها وحياتها وألعابها ومدرستها، حتى أنها لم تنسَ شجرة الورد الجوري أمام باب منزلها التي اشتاقت لها.
سكون الليل ووحشته، وصوت نباح الكلاب الشاردة تجعل صفاء (25 عاماً) تخاف وتصاب بالهلع طوال الليل، فتعود إلى ذاكرتها جميع الأحداث المرتبطة بفرارها من الحرب، فتجتاح أنفها رائحة البارود والدخان التي لم تفارقها، كما تصف، رغم مضي وقت ليس بالقصير على نزوحها الأخير. تقول إنها تخشى الخروج من خيمتها بعد المغرب، "فالمكان موحش، لا إضاءة ولا حرس.. وأصوت الحيوانات البرية والكلاب يجعلنا نشعر أننا وسط غابة تعج بمن يتربص بنا لافتراسنا".
تتدهور الأوضاع داخل المخيمات الجبلية مع استمرار الأفراد بالعيش وسط ظروف معيشية مجهدة، حيث عوامل المعاناة المتعدّدة الناجمة عن الأمراض المزمنة والصعوبات المالية والضغط النفسي وآثار العزلة، إضافة إلى مشاعر حزن النازحين والأسى، إمّا على منازلهم التي خسروها أو على فقدان أشخاص عزيزين على قلوبهم، أو على منفاهم الذي فرض عليهم.
تربك هذه البداوة الاضطرارية سكان المخيمات مع الأيام، رغم أن أعدادهم كبيرة جداً، لكن الأسس التي تبنى وفقها المخيمات من اختيار المكان إلى توزع الخيام، وشعورهم الدائم بأنهم يعيشون في المؤقت، يجعل من كثرتهم قلة. ووفق آخر إحصائية لفريق ”منسقو استجابة سوريا“، فقد وصل عدد المخيمات في الشمال السوري إلى ١١٥٣، في وقت بلغ فيه عدد المخيمات العشوائية ٢٤٢ وعدد النازحين ضمن المخيمات ٩٦٢,٣٩٢ نسمة، أما عدد النازحين ضمن المخيمات العشوائية ١٢١,٨٣٢ نسمة.