- Home
- مقالات
- رادار المدينة
شهيدٌ من رجال الدفاع المدنيّ
في مساء أحد الأيام الأخيرة من شهر رمضان هذا العام، أعلنت المئذنة عن ارتقاء الشهيد ياسر السيد حسين. كان للخبر وقعٌ حزينٌ على الناس الذين تقاطروا لوداع الرجل ودفنه، بعد صلاة العشاء، في مقبرة إحدى قرى ريف إدلب الشماليّ، ثم عاد الأقارب والأصدقاء إلى منزله لتقبل العزاء.
قبل حوالي أربع سنواتٍ من ذلك اليوم كان ابنه البكر محمد عائداً من دمشق، منشقاً عن جيش النظام، وفي الطريق، وقبل وصوله بقليل، انقطعت أخباره. بحث والده وأقاربه وأصدقاؤه عنه كثيراً، دون جدوى. كان والده قليل الكلام، هادئاً ومتواضعاً، لكن أمارات الحزن كانت باديةً عليه. كيف اختفى ابنه؟ هل التحق بأحد الفصائل؟ هل قبض عليه النظام؟ يقول أكرم، ابن عمه: «بحثنا عنه في كل المناطق المحرّرة ولم نحصل على خبرٍ يبيّن مصيره». سألته: هل ألقى النظام القبض عليه بعد أن عرف بانشقاقه؟ يجيب: «كنت أتواصل معه على الهاتف من دمشق حتى وصوله إلى ريف حلب الجنوبيّ، ومنها إلى مناطق الثوار، ثم فجأةً انقطع الاتصال معه واختفى نهائياً».
ذهب أبو محمد إلى عمله في حلب، حيث كان يعمل لدى الدفاع المدنيّ التابع للنظام، فأوقفه حاجزٌ للثوار واعتقله لعدة أيام. تدخل أقاربه وأخرجوه بعد أن تعهد بعدم العودة إلى عمله هناك. ظلّ في قريته دون عمل. كان لديه ستة أولاد: محمد، وعبد الحميد، وأربع بنات.
بعد ذلك بحوالي السنة التحق بالدفاع المدنيّ الحرّ في ريف حلب الغربيّ كعامل إطفاء. كان الراتب قليلاً، وأحياناً تمرّ أشهرٌ دون أن يتقاضى أيّ أجر، لكنه، مع رفاقه، كانوا يتابعون عملهم في إطفاء الحرائق وانتشال العالقين من تحت الأنقاض. كانوا يحملون أرواحهم على أكفهم ويهرعون إلى حيث يمكنهم أن ينقذوا الآخرين. حتى أشاد العالم كله بشجاعتهم، وعرف النظام المجرم أهميتهم، فكانوا هدفاً مباشراً لطائراته التي قصفت مقرّاتهم ودمرت آلياتهم، ووصل الأمر بهذه الطائرات إلى أن تختار هدفاً لا على التحديد، فتدمّر المكان، فيهرع رجال الإطفاء لأداء عملهم، ويتجمّع الكثير من الناس لمساعدتهم في إنقاذ المصابين والعالقين، فتعود الطائرات لتقصف المكان نفسه بعد دقائق قليلة، موقعةً أكبر عددٍ ممكنٍ من رجال الدفاع المدنيّ والناس. كثيرون استشهدوا نتيجة تلك الغارات الوحشية.
كان الصراع قاسياً، والتحدي لا يلين. لكنهم كانوا يفكرون في الآخرين قبل تفكيرهم في أنفسهم، وما زالوا مستمرّين في ذلك التحدي حتى اليوم، رغم ضراوة الهجوم عليهم واستهدافهم بشكلٍ مباشر. كنا، نحن الناس العاديين، نعرف أن الموت محدقٌ برجال الدفاع المدني في كلّ لحظة، ولذلك ننظر إلى عملهم باحترامٍ وإجلالٍ وتقدير. كنا نعرف، وهم دون شكٍّ يعرفون، أن موتهم مؤجلٌ فقط: ربما بعد يوم، أو شهر، أو سنة، لكنه دائم التحليق فوقهم. «الموت في المناطق المحرّرة محيطٌ بكل إنسانٍ في كل لحظة»، كان ياسر يقول، «ولكن أن نموت ونحن نؤدي واجبنا نحو شعبنا فذلك ما نرجوه من ربنا. وإن تحقق ذلك فهذا هو الفوز العظيم». يتابع بعد أن يتنهد قليلاً ويذهب بنظره إلى البعيد: «لسنا أهم من أولئك الذين يموتون على جبهات القتال. في النهاية كلنا سنموت، ولكننا سنُسأل أمام الله ماذا قدمنا لإخوتنا في الحياة الدنيا. فليرحمنا الله وليرزقنا الشهادة».
وأتى ذلك اليوم! وفاجأنا الخبر!
لأحد الأصدقاء جملةٌ يرددها كلما استشهد أحدٌ من قريتنا أو من معارفنا: «نتوقع دائماً أن رجال الدفاع المدني، والإسعاف، والمقاتلين على الجبهات، قد يموتون في أيّ لحظة. لكننا عندما نسمع خبر موتهم فكأننا لم نفكر في ذلك أبداً. تأخذنا الدهشة والحزن العميق ونأتي لوداعهم والدمع في مآقينا!».
في قرية كفرناها قرب حلب كان الموعد الأخير. على اللاسلكي أعلنوا وجوب التوجه إلى هناك لإطفاء الحرائق. كانت مجزرةً مروعة. بدأ رجال القبعات البيض عملهم بجدٍّ وشجاعة. وبينما هم منهمكون عادت الطائرات وقصفت المكان مرّةً ثانية. همجيةٌ لا مثيل لها في تاريخ الحروب! إجرامٌ عتيقٌ لدى جهابذة النظام وأعوانه من الميليشيات والدول التي تسانده!!
استشهد ياسر عبد الحميد السيد حسين وأصيب رجل إطفاءٍ آخر، واستشهد وأصيب عددٌ كبيرٌ من الناس الذين هرعوا للمساعدة. كان المشهد مروّعاً... أكبر من أن يوصف.