- Home
- مقالات
- رادار المدينة
سورية الثورة ومخلّفات السلفية الجهادية
لم تعدِ المشكلةُ اليوم في «فتح الشام» أو «هيئة تحريرها»، ومن قبلهما جبهة النصرة، أو داعش، ولا في كل من يدور في فلك الغلاة فحسب، بل باتت الخطورة في ثقافة الغلو التي زرعتها «السلفية الجهاديّة» وتغذّى عليها آنفو الذكر جماعات وأفراداً. وسواءً هزمت هذه التنظيمات عسكرياً أو فُكّكت بقرار دولي، فهل ستنتهي آثارها سريعاً أم ستدوم طويلاً؟
ضرب البنى الدينية التحتيّة
أسهمت السلفيّة بشكل واضح في تنفير الناس من الإسلام وإضعاف الأرضية الدينية والالتزام الموجود لديهم. إذ يعرف السوريين عموماً بتدينهم الوسطي، وتقديسهم للشعائر والواجبات الدينية، واحترامهم لأهل العلم، وتسابقهم لأعمال الخير واحتضان المحتاجين أياً كان دينهم أو ملّتهم. ولكن تصرفات الغلاة جعلت الإسلام مادة للسخرية، كما في المسلسلات التلفزيونية التي لم يكن منتجوها يجرؤون سابقاً على النيل من مقدّساتنا بهذا الشكل، عدا عن تسخيف المصطلحات والنيل من هيبة الدين حتى في قلوب أعدائه، ومن ذلك تحوّل مصطلح الجهاد من فريضة إسلامية إلى نكتة وتهمة يُنال بها ومنها صباح مساء (جهاد النكاح). ولا شك في أن هذا التطرّف المضادّ جاء على شكل ردّات فعل عكسيّة، أخطرها تلك الأطروحات التي وضعت الإسلام نفسه في قفص الاتهام عوضاً عن المسلمين البعيدين عنه!
تفتيت النسيج الاجتماعي
لعلّه أيضاً أحد أخطر الآثار السلبية. إذ أدّت أدلجة مفهوم وأهداف الثورة، واستبدال شعارات طائفيّة وحزبيّة بشعارها الذي جمع بين الدين والوطن والحرية (الله، سورية، حرية وبس) إلى ضرب النسيج الاجتماعي وتمزيق أواصر الأُخوّة والمواطنة بين مكونات المجتمع بكافة شرائحه الدينية والفكرية والعرقية وحتى المناطقية. بل تعدّتها إلى أفراد العائلة الواحدة، فهذا «نصرة» وذاك «أحرار» وهؤلاء «داعش» وأولئك «جند الأقصى» ولا نزال نحن جيشاً حراً. وقد لا نجد قريةً أو عائلةً ليس لها حقّ مهدور على يد فلان أو غيره من هذا الفصيل أو ذاك. ومع عدم مراعاة حرمة الدم، وكثرة حوادث الاغتيال والبغي، لم نعد نشهد الفزعة الأولى للثورة، ولم نعد نسمع مدينةً تهتف لأخرى «نحن معاك للموت».
استنزاف الموارد
لعب «الشرعيون» دوراً سلبياً للغاية في مسار الأحداث، خصوصاً من تلقّوا وتبنّوا فتاوى أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني وغيرهم، الذين جُعلت كتب بعضهم وكأنها مصدر من مصادر التشريع لا يأتيه الباطل! وبين نواقض الإسلام لمحمد بن عبد الوهاب، وإدارة التوحش لأبو بكر ناجي، وملّة إبراهيم للمقدسي، ضاعت بوصلة الشباب المتحمّس. وقد أضاع أدعياء العلم «الشرعيون» فرصة ذهبية في استثمار طاقات الشباب، فبدل توظيف حماسهم وتديّنهم في الدفاع عن الوطن والتمسك بثوابت الثورة والقيم الأخلاقية التي قامت لأجلها، أسهموا في هدر دمائهم واستنزافهم في حروب ومعارك طاحنة ظاهرها «الإسلام» وباطنها خلافات ونزاعات ممتدة من سجن صيدنايا، صراعات أبدعَتْ أجهزةُ المخابرات في تنميتها واستثمارها سياسياً، كيف لا وهي تجد تنظيمات تعاديها في الأقوال والشعارات بينما تقدّم لها خدمات جليلة بأفعالها وتصرفاتها!
من جانب آخر، فإن تفكيك ثقافة الغلوّ يحتاج موارد وجهوداً عظيمة، قد لا تقل كلفةً عن تفكيك منظومة أو تنظيم عسكري؛ إذ لا بد من دوراتٍ وبرامجَ وندواتٍ حوارية تعمل على نقض أصول هذا الفكر ودحض استدلالاته الخاطئة. وتستنزف هذه الجهود طاقاتٍ وقاماتٍ علميةً، فضلاً عن أموال كثيرة وأوقات طويلة، كان من المفروض أن تُستثمر في مشاريع تنهض بالوطن وبالمواطن. ولك أن تتصوّر إلى أين وصلت بعض الدول ومراكز الأبحاث من تقدم تكنولوجي وحضاري في حين لا نزال نراوح مكاننا ونصرف جهدنا في إقناع البعض بأهمية العمل المدني، وفصل السلطات، والديمقراطية والانتخابات، وجواز دخول البرلمان!
متى ستعتذر السلفية الجهادية؟
قبل اغتيال قادة «أحرار الشام» بمدة وجيزة، اعتذر أبو يزن الشامي -بعد فوات الأوان- وهو من أبرز شرعييهم وقائدهم لمدة في حلب، مخاطباً السوريين بقوله: «نعم أنا كنت سلفياً جهادياً، واليوم أستغفر الله وأتوب إليه وأعتذر لشعبنا أننا أدخلناكم في معارك دونكيشوتية كنتم في غنىً عنها، أعتذر أننا تمايزنا عنكم يوماً، أعتذر منكم أعتذر، وإن شاء الله قابل الأيام خيرٌ من ماضيها لثورتنا ولإسلامنا».
وما هي إلا أيام حتى اغتيل ومن معه من قادة الأحرار ممن وعدوا بتغييرات ومراجعات جذرية!