- Home
- مقالات
- رادار المدينة
ستون يوماً على انتفاضة السويداء .. وعي الحقوق والتركيز على التحصين الداخلي
بدا خلال الأيام الأخيرة أنّ الحركة الاحتجاجية في السويداء أقصى الجنوب السوري، ماضية في طريقها الذي بدأتهُ قبل شهرين، على الرغم مما قد يحيط بها من عوائق. وعلى الرغم من أنّ جزءً من الحيّز الذي احتلّتهُ الاحتجاجات من الفضاء الإعلاميّ قد تحوّلَ بشكلٍ طبيعيّ نحو الحدث الأكثر سخونةً وعنفاً ودمويّةً أيضاً، العدوان الإسرائيلي على قطّاع غزّة، والذي أخذَ الحصّة الأكبر من انشغالِ العالم بدوله ومؤسساته عمّا سواه، فإنّ سعيَ المحتجّين لتحصينِ حراكهم واستمراريّته توازياً مع الحفاظ على المساحة الأكثر أماناً في مدينة السويداء (ساحة الكرامة)، لم يتأثّر بما هو خارجه، وما يزال يؤكد أنهُ يعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه.
قبلَ السابع من تشرين الأول الفائت، اليوم الذي تسارعت فيه وتيرة الأحداث في الأرض المحتلة، أثارت المجزرة التي وقعت في حفل تخريج دفعة الضبّاط الجديدة في الكليّة الحربيّة بحمص، والتي راح ضحيّتها عشرات طلّاب الضبّاط وذويهم، المخاوفَ على حراك السويداء من أكثر من زاوية ومفصل، إذ ذهبت بعض تكهّنات الوسط المعارض إلى اعتبارها محاولة من النظام لإشعال حدثٍ ما، كان ضرورياً أن يكون دموياً، يخطفُ الأبصار عما يجري في الجنوب السوري، أو لخلق ذريعة لردّ الفعلِ مستغلاً حدثَ الكليّة الحربيّة لتبريرِ ثأرهِ من محتجّي السويداء، بعد أن حاول طوالَ الفترة السابقة عليه تجاهل انتفاضة الناس في الجبل.
لكنّ الحركة الاحتجاجية فاجأت الجميع ولم تنحرف عن الخطّ الذي رسمته لنفسها، ولم تنشغل بما لا يختصُّ فيها، بما في ذلك ما يشغلُ الرأي العام. اهتمّ المُحتجّون بتصليب مظاهرهم الاحتجاجية، منطلقين بذلك من كون حراكهم حراكاً حقوقياً، وهو على ذلك لا يخفتُ بخفوتِ الضوء المسلّط عليه من ناحية، ويحتاجُ جهداً ضخماً لتوسيع الشرائح المنضوية تحته من خلال التوعية إلى الحقوق التي خرجَ المنتفضونَ بسببِ الافتقارِ إليها، من ناحية أخرى.
اكتشاف القدرة
بدأت الحركة الاحتجاجية الأخيرة في العشرين من آب عقب القرار الحكوميّ برفع الدعم عن المحروقات، بدأتها شريحةُ من الموظفين وسائقي الحافلات بالإضراب العام. وعلى الرغم من أنّ الإضراب عادةً شكل متقدّم من أشكال التعبير، ويحتاجُ إلى وقت وتنظيم للوصولِ إليه، فإنّ البدء فيه كان مؤسساً لوعي الناسِ بقدرتها على الرفض. في هذا السياق يقولُ عزّام أحد المشاركين في الانتفاضة منذ بدايتها: "محافظة السويداء ذات طبيعة ديموغرافية خاصة كون غالبيّة سكّانها من المسلمين الموحدين الدروز. كان لها حساباتها منذ بداية الثورة السورية، إذ لم تكن مشاركتها في الثورة كميّة، واختار أهلها معركة الحفاظ عليها كملجأ يستطيع السوريون الوصول إليه والاحتماء بين أهله، وفي هذا الصدد استقبلت السويداء ما يعادل ثلث عدد سكانها كضيوف لا كنازحين، وقد حاولت السلطة كثيراً زج هؤلاء الضيوف ووضعهم في مراكز إيواء دون أن تنجح عمليّة تحويلهم إلى نازحين".
يضيف عزّام: "غالبية شباب المحافظة لم ينخرطوا في المقتلة السورية من خلال رفض أداء الخدمة الإلزامية والاحتياطية، وقد كنتُ واحداً من هؤلاء المطلوبين لأداء الخدمة الاحتياطية. لو اجتمعت أمم الأرض لن أخدم في هذه المقتلة".
هذه الظروف ساعدت على رؤية الثورة السورية من منظور مختلف، خاصة عند الجيل الذي أصبح يسمى جيل الحرب وفق عزام، الذي يرى بأنه من جيل بلور مطالبه الخاصة وتشكل وعيه في ظروف لا تشبه ظروف الأجيال السابقة عليه. ويلخص "جيل خبير بالتعامل التكنولوجي ويقرأ الأحداث من منظور الحق والواجب والحرية الفردية والمسؤولية الجماعية، وجيل يقرأ ضرورة الوصول إلى تغيير بنية هذه المنظومة بكاملها (شلع قلع)"
المحاكمات الشعبية السلمية:
أدركَ المشاركونَ أهميّة الحفاظ على سلميّة الحراك منذُ يومهِ الأول، على الرغم من أنّ الانتقالَ إلى الطورِ المسلّح لم يكن ليكون مفاجئاً لأحد في محافظةٍ سعت السلطة السورية إلى تسليح مجموعاتٍ من أبنائها لمواجهةِ المُعترضين عليها منذُ بدايةِ الثورة ضدّ نظام الأسد، لكنّ الوعي والدور الذي لعبتهُ المؤسسة الدينيّة ممثلّةً بشيخي العقل حمود الحناوي، وحكمت الهجري الرئيس الروحيّ لطائفة المسلمين الموحّدين الدروز، التي اتخذت موقفاً لافتاً بتأييد حراك المحتجين وتحصينه- عوامل ساعدت في إدراكِ اتساعِ وتنوّع أشكال الاحتجاج في حال حافظ الحراك على سلميّته.
من تلك النقطة بدأ المحتجون بمشاركة أفكارِهم إزاء ما يُمكنُ فعله ضمن مروحة الاحتجاجات الواسعة التي يُمكنُ أن يخدمها الحفاظ على السلمية. توجّهت الأنظارُ أولَ ما توجّهت إلى حزب البعث: صبّ المُحتجّون غضبهم على الحزب الذي يحكمُ البلادَ منذُ ستّة عقود، واتخذوا قراراً بإغلاقِ مقارّه الرسميّة سواء في مدينة السويداء أو في ريفها، مستندينَ بذلك إلى حقٍّ آخرَ من الحقوقِ التي أقرّها دستور عام 2012 الذي جاء كمحاولة لامتصاص الثورة التي بدأت تفرضُ نفسها على كامل الجغرافيا السوريّة، والتي كان من أوائل مطالبها إلغاء المادّة الثامنة من الدستور، وتنصّ على أنّ حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع. وقد ألغى الدستور تلك المادة معتبراً حزب البعث حزباً سياسيّاً ليس لهُ صلاحيّات استثنائية، ومفصول عن الدولة ومؤسسة الجيش والأجهزة الأمنيّة.
استخدمَ المنتفضون وسائل بدائية لإغلاق مقارّ حزب البعث، ومنعوا اللواء المتقاعد فوزات شقير أمين فرع الحزب في السويداء من الوصولِ إلى مكتبِه، بعد أن خاض بعضهم معه على أحد الحواجز التي أقاموها في بلدة القريّا، نقاشاً صارَ مثارَ تندّرٍ وتهكّم واستخدمهُ المنتفضون في اللافتات والأغنيات والنكات. يُسمعُ في ذلك التسجيل صوتُ شابٍ يسألُ أمين فرع الحزب بشكلٍ بسيط وواضح: هل ستصلُ الكهرباء إلى بيتي إذا ذهبتَ اليومَ إلى مكتبك؟ هل سوف يساهمُ ذهابك في تأمين الغذاء ووقود التدفئة لأطفالي؟
لم يكتفِ أهلُ السويداء بتوجيه جام غضبهم إلى حزب البعث وأهله، بل ذهبوا في سياق متصل، إلى محاكمات شعبية سلميّة لمن اعتبروهم أعواناً لأجهزة النظام، فقد سبق وذكرت شبكة السويداء 24 المحليّة، أنّ أهالي قرية تعارة في ريف السويداء الغربي، عزلوا مختار قريتهم على خلفية تقارير أمنية رفعها بأسماء المشاركين في الاحتجاجات من الأهالي.
وأضافت أن قرار الأهالي جاء بعد أن شهدت صالة القرية اجتماعاً حضره أكثر من 100 شخص من مختلف العائلات، وأفضى إلى عزل المختار ومقاطعته دينياً واجتماعياً، وذلك بعد التحقق من وثائق تثبت تورطه في رفع تقارير أمنيّة ضد شباب القرية.
يقول منير الطرودي، أحد النشطاء الحاضرين في الساحة: "من هذا الجو العام كانت إجراءات الحكومة الأخيرة شرارة أشعلت احتجاجات في ظاهرها معيشية، لكن وعي الحالة السياسية كان قد وصل إلى أن جوهر هذه الاحتجاجات هو التغيير المبني على الحل السياسي للمعضلة السورية والإقليمية، وأن أي احتجاج يجب عليه أن ينظر لأصل المشكلة (التغول الأمني للسلطة وحزب البعث في المؤسسات)، وبالتالي أصبح المطلب المعيشي هو الحل السياسي، فرغيف الخبز يحتاج حلاً سياسياً وإعادة الإعمار تحتاج استقراراً، وتنشيط الاقتصاد لا بدّ له من بيئة مريحة مقوننة بلا تغوّل أمنيّ وبلا حيتان تبتلعُ المقدّرات".
"كما أن أزمة الميليشيات والمخدرات وعصابات السرقة والخطف، والتي نعلم جيداً عمق ارتباطاتها بكل الاحتلالات على أرضنا، جعلت شكل الحراك يظهر على ما رأينا" يضيفُ الطرودي. ويؤكد انه "لا سلاح بيد الناس المقهورة في الساحات سوى صوتها وحضارتها وسلوكها وأخلاقها التي تقدمها للإعلام وللآخرين، عسى أن يكون هذا السلوك كابحاً للمليشيات والعصابات وحتى للسلطة، وأيضاً أن يكون داعماً للقوة الدولية لفرض تطبيق الحل السياسي والوصول للتغيير المنشود على أساس القرار الأممي 2254".
ستونَ يوماً منذُ بدأ حراكُ السويداء الأخير، لعلّ أبرزَ ما ميّزه هو انتباه الناس لقدرتهم على كسرِ القوقعةِ التي وُضِعوا أو وَضَعوا أنفسَهم فيها، واستعادتهم للثقة بأنهم يستطيعون ضمن المتاح تشكيلَ جبهةٍ داخليّة واعية لحقوقها وواجباتها ضمن أطر قانونيّة وقيميّة، تقتصُّ من تلك القوى التسلطية التي أرساها النظام في عموم سوريا.
تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من "صحفيون من أجل حقوق الإنسان" (JHR)