سبب ذهابي إلى حلب

سامر عطار
نيويورك تايمز/ 26 آب
ترجمة مأمون حلبي

يقع المشفى الذي أعمل فيه في مدينة حلب في أحد الأقبية. قُصف المبنى الذي فوقه مرّاتٍ كثيرةً إلى درجة أن استعمال الطوابق العليا بات شديد الخطورة. البراميل وأكياس الرمل تصطفُّ كساترٍ على المدخل لتحصينه.

تقع حلب على مسافةٍ بعيدةٍ من مدينة شيكاغو التي أعيش فيها، والتي لها نصيبها من المعاناة الإنسانية. لكن المشفى الذي أعمل فيه في شيكاغو يمتلك أحدث المعدّات الطبية وبعضاً من أفضل الأطباء وكوادر التمريض في العالم؛ فالمشارط حادّةٌ وغرف العمليات معقّمة، مع وفرةٍ في الاختصاصيين. حلب، أيضاً، فيها بعضٌ من أفضل الأطباء وكوادر التمريض في العالم، لكن من بقي منهم قليلون للغاية، وهم منهكون ومعرّضون للخطر، ويحتاجون إلى المساعدة. من أجل هذا أتطوّع للعمل الطبيّ في سوريا. فحتى الأسابيع القليلة التي أستطيع أن أقدّمها كلّ عامٍ تمُدُّ الجراحين القلائل الذين يخدمون 300 ألف شخصٍ في منطقةٍ حربيةٍ بشيءٍ من الراحة والتخفيف. إنها لمسؤوليةٌ كبيرة، لكني أشعر أني لا أستطيع أن أطلب من قادة العالم أن يجازفوا بأرواح مواطنيهم لإنقاذ الناس هناك إن كنتُ أنا نفسي غير مستعدٍّ للقيام بمخاطراتٍ كهذه. أسابيعي في حلب فيها عملٌ مكثّف. في شيكاغو، حيث أختصُّ بالمعالجة الجراحية للأورام، أعاين مريضاً واحداً كلّ مرّة. في حلب، أعاين عشرين مريضاً دفعةً واحدة. هنا، في حلب، يعيش المرء مجزرةً تلو الأخرى: مجزرة لأطفالٍ في المدرسة، أو لعائلاتٍ وهي نائمةٌ في بيوتها أو تتبضع في أحد الأسواق. نسمع الطائرات وهي تزأر والحوامات وهي تهدر في السماء، ومدافع الهاون وهي ترمي، بعدها نسمع القنابل وهي تنفجر، يتبع ذلك صوت صفارات الإنذار وزعيق الناس. في بعض الأيام يبدو أن صوت الزعيق لا ينتهي أبداً. يندفع عددٌ كبيرٌ جداً من الناس عبر بوابة المشفى. ليس هناك ما يكفي من الأسرّة، لذا على المرضى أن يشاركوا بعضهم النقالات أو يتمدّدوا على الأرض. أحياناً لا يكون هناك متسعٌ للحركة لوجود المصابين متمددين على الأرض وقد غطتهم الدماء وأجزاء من الأجساد البشرية. لقد تبقّى عددٌ قليلٌ جداً من المشافي الميدانية في حلب، لذا فالمرضى العالقون خارجاً ولا يستطيعون الدخول يموتون أحياناً على عتبة مشفانا.

بعدها، وبشكلٍ فجائيّ، ينتهي الأمر. أمشي مبتعداً. يأخذونني عبر أزقةٍ يرصدها القناصون، وعبر مناطق معرّضةٍ للضربات الجوية، ومروراً بنقاط تفتيشٍ لكي أعبر الحدود إلى تركيا. ومن هناك أسافر جواً إلى بلدي. يحطّمني هذا الأمر في كلّ مرّة. في لحظةٍ ما، أنا في مشفىً واقعٍ تحت الأرض يهتز من انفجارات الصواريخ، ونحن نقوم بإنقاذ من نستطيع إنقاذه ونراقب أولئك الذين لا نستطيع إنقاذهم وهم ينزفون حتى الموت. في اللحظة التالية، أنا في مقهى المطار أراقب رجلاً يرتدي بدلةً عصريّةً وهو يقطع طابور الناس، أو امرأةً توبّخ النادل لأنه وضع أكثر مما ينبغي من مكعبات الجليد في فنجان الشاي. لا شيء له معنى، ويشعر المرء كما لو أنه شبح. حالما تكون هناك، فإنك في الواقع لا تغادر حلب أبداً.

لدى عودتي إلى شيكاغو فإن مرضاي هم من يساعدونني على أن أحافظ على تركيزي. كانت لديّ مريضةٌ عانت من ورمٍ خبيثٍ في الساق عندما كانت في الثامنة من عمرها. تحمّلت عاماً من العلاج الكيماويّ وتمَّ استئصال قسمٍ من عظمة الساق السفلى للتخلص من السرطان، وتلا ذلك علاجٌ بالأشعة. أعاقت المعالجة نمو ساقها وشوّهت كاحلها، لكنها كانت تريد أن تتمكن من الجري ولعب كرة القدم. في رحلةٍ إلى كولورادو من أجل التزلج، شاهدت الفتاة أناساً يتزلجون على أطرافٍ اصطناعية، وهذا ما كانت تريده. عندما أصبحت في الحادية عشرة نظرت في عينيّ وطلبت مني أن أبتر ساقها اليسرى. لقد أبدت الفتاة كثيراً من القوة. ذكّرتني بأحمد، فتىً سوريٌّ فقد كلتا ساقيه وفقد أمه عندما دمّرت قذيفةٌ منزلهم. كان يأمل أن يحصل ذات يومٍ على أطرافٍ اصطناعيةٍ تشبه أطراف الإنسان الآلي لكي يتمكن من المشي. قدرته على الشفاء كانت مُلهمة.

في كلّ مرّةٍ أعود إلى حلب تكون الظروف أسوأ، وإمكانيات العيش أضعف. الأسواق، والأطفال في الشوارع، وجلبة العيش اليومية يحلّ محلها الركام. قفارٌ تذكّر بالقيامة، فيها مبانٍ كئيبةٌ لها أسطحٌ منهارةٌ وسلالم متصدّعة. لكن الناس ما زالوا يعيشون وسط الخرائب. تراهم ينشرون الغسيل من غرفةٍ في الطابق الثالث لمبنىً مقسومٍ إلى نصفين. وترى الأطفال يتسلّقون تلّةً من الأنقاض ارتفاعها 10 أقدامٍ وهم في طريقهم إلى البيت يحملون شيئاً من الخبز والماء. على الحياة أن تستمر، وعلى الناس أن يجدوا طرقاً للتأقلم. إنهم يفضّلون أن يواجهوا الموت في بيوتهم على أن يعانوا في مخيمٍ للاجئين، أو يخاطروا بالغرق في مركب.

بالنسبة إلى طبيبٍ جرّاحٍ في هذه الأجواء، قرارات تحديد المصابين الذين لهم أولوية المعالجة تعني الفرق بين الحياة والموت. أمٌّ تتوسل إليّ أن أعنى بابنها. جمجمته مفتوحة ودماغه مكشوف. لقد مات. ليس ثمة ما نستطيع فعله. أنتقل إلى فتاةٍ لديها شريانٌ متمزقٌ في ساقها المبتورة. قد تنزف حتى الموت في غضون دقائق، لكننا نشتري الوقت بالضغط والربط بقطعة قماش. بجوارها شابةٌ أخرى. يدها اليمنى فقدت معالمها: أربطة منفلتة وأصابع ملتوية وعظام مهشمة. تمسك أمها كتفي وهي تتوسل إليَّ أن آخذ ابنتها إلى الجراحة أولاً. لكن الفتاة على قيد الحياة وتستطيع الانتظار. قد يدوم هذا الأمر لساعات. لا أعود أشعر بالزمن. أخيراً تتلاشى حالة التشوّش والفوضى. أرضيات الغرف تُمسح وتُنظّف، ويتمّ لفّ الموتى بأكفانٍ بيضاء ويوضعون في الشارع لإفساح مجالٍ للموجة التالية من الجرحى والمحتضرين. يشعر المرء بالعجز. لا توجد أيادٍ كافيةٌ للمساعدة، وليس بالإمكان إنقاذ الجميع. أينبغي أن نعطي كل مخزوننا من الدم لننقذ حياةً واحدة؟ أم ينبغي أن نُقنّن هذا المخزون لننقذ خمس أشخاصٍ يحتاج كلٌّ منهم إلى بعض الدم؟ الخيارات مستحيلة، ومع ذلك نختار.

ضحّى الأطباء السوريون وعمال الإنقاذ في حلب بكل شيء، وبعضهم ضحّوا حتى بأرواحهم. إنهم يصلون إلى مكان عملهم كلّ يومٍ رغم كل الفظاعات المرعبة. أولئك الذين يتطوّعون منّا لا يستطيعون إيقاف القنابل، لكننا نستطيع أن نخدم متضامنين مع منقذي الأرواح في سوريا. إن لم أستطع أن أساندهم وأمشي على خطاهم لبضع أسابيع في العام، فمن سأكون؟ إنهم من بين أكثر الناس الذين قابلتهم قط بطولةً وشجاعةً ونكران ذات– مثلهم مثل رجال إطفاء مدينة نيويورك الذين قابلتهم في 11 أيلول 2001. انحشرتُ، أنا الذي كنت طالب طبٍّ في ذلك الوقت، في سيارة إسعافٍ مع ممرضين وأطباء واتجهنا نحو الدخان والرماد لنساعد. شاهدت رجال إطفاءٍ ومسعفين ورجال شرطةٍ ومواطنين يندفعون إلى مركز التجارة العالميّ. ذاك كان الطرف الذي كنت أريد أن أكون في صفه. كتبنا أسماءنا على قفا صدارينا الطبية بأقلامٍ حبرها أسود في حال كانت هناك حاجةٌ للتعرف على أجسادنا. كنت خائفاً، لكني كنت محاطاً بأناسٍ طيبين يفعلون ما هو صحيح. لم يخالجني ذلك الشعور ثانيةً إلى أن عدت إلى حلب في آب 2013. كنت قد زرت سوريا عدّة مرّاتٍ من قبل وكنت أعرف حلب، لكن زيارة آب كانت سفرتي الأولى منذ أن بدأ النزاع. الحزن والهلع اللذان شعرت بهما في أيلول 2001 أشعر بهما كلّ يومٍ في حلب. ذات يومٍ عالجنا طفلاً أصيب في انفجار. كانت شظايا عظميّة لأحد المارّة مغروزة في جلده. ضربةٌ جويةٌ أصابت مدرسته أثناء مناسبةٍ خيريةٍ للتبرّع بملابس للفقراء. آخر شيءٍ تذكره الطفل كان رؤية صديقه المفضل يتمزّق أمامه. شاهدني والد الطفل وسأل من أنا ولماذا كنت أتكلم بلغةٍ غريبة. شرح له أحد الممرضين أني طبيبٌ أميركيّ. قال لي إنه لم يقابل أميركياً أبداً. لم يكن يعتقد على الإطلاق أن سيأتي يومٌ يجيء فيه طبيبٌ أميركيٌّ –طبيبٌ ذو دمٍ سوريٍّ لكنه ولد وتربى وسط حريات وترف الولايات المتحدة– إلى حلب ليساعد في زمن الحرب.

أعطى هذا الأمر عملي بُعداً جديداً: ارتباطٌ محسوسٌ للتخفيف من معاناة شعبٍ تمّ التخلي عنه طويلاً. هذا الارتباط يجعل الناس يعرفون أنهم ليسوا وحيدين، وهو قد جعلني أكثر امتناناً لحياتي في أميركا. إنه أيضاً السبب في عودتي.