- Home
- مقالات
- رادار المدينة
زيارات العيد ليست مجرد زيارة
زيارات العيد امتداد لزيارات مشابهة بين الأتراك والسوريين كانت متاحة قبل بدء الثورة، حين كان يُسمح كل عيد للسوريين أو الأتراك بزيارة أقاربهم في الطرف الآخر من الحدود، لكنها اليوم تقتصر على السوريين وتتخذ مسارات فريدة.
قبل عيدي الفطر والأضحى من كل عام، اعتادت السلطات التركية على منح فرصة للاجئين السوريين في تركيا لزيارة بلدهم ثم العودة، عبر المعابر التي يسيطر عليها الثوار في حلب وإدلب. في البداية كانت الزيارات محصورة بمعبر باب الهوى شمال إدلب، إلى أن شهد العام الماضي انضمام معبر باب السلامة شمال حلب، كخيار كان لا بدّ منه، خصوصاً في الفترة التي كانت فيه وحدات حماية الشعب الكردية تسيطر على الطريق الوحيد الذي يربط ريف حلب الشمالي بالغربي. هذا العام كانت زيارة العيد متاحة عبر ثلاثة معابر، وهي معبر باب الهوى ومعبر باب السلامة، ومعبر جرابلس في الشمال الشرقي لحلب.
مع كل زيارة عيد تنشر وسائل إعلام تركية مشاهد السوريين يتوافدون إلى المعابر بعشرات الآلاف، بينما تبدو على وجوههم حماسة لا تظهر على ذاهب إلى أخطر بلد في العالم، ليتساءل كثر عن مدى صدق روايتهم عن فرارهم من الحرب في سوريا. بالطبع هناك الكثير مما يمكن الردّ به على وجهة النظر تلك، إلا أني أردت استغلال تحوّل منزلي في مدينة أعزاز إلى ما يشبه مركزاَ لاستقبال اللاجئين العائدين إلى الوطن، يتفوق بفارق جيد على مراكز استقبال اللاجئين التي افتتحها الروس، لأبحث عن الأسباب التي دفعت بضيوفي للتوجه إلى سوريا، متجاهلين الأخطار داخل الحدود وصعوبات الزحام والسفر.
لماذا أردتم زيارة سوريا؟ لم أحتج في أكثر الأحيان لطرح هذا السؤال عليهم، لأن الأجوبة كانت تأتي قبل الزيارة في الغالب. الضيوف بطبيعة الحال كانوا من الأقارب، وسبب زيارتهم، في الغالب كذلك، كان لقاء أحبتهم في الداخل ممن لم تتح لهم الظروف السفر إلى تركيا، إلا أني اخترت بعض الأسباب التي تميزت عن الإجابات النمطية وتقديمها في هذه المادة.
بطلة القصة الأولى هي أختي التي تركت دراسة الأدب الإنكليزي في جامعة حلب نتيجة ظروف الحرب المعروفة، وضاعف في انشغالها عن الدراسة زوج وطفل وطفلة، والسن في تركيا بطبيعة الحال، لكن بعد صدور عدة قرارات تتيح للطلاب المستنفذين التقدم للامتحانات هذا العام، قررتْ، وبدعم من زوجها وأبي وأخوتي، زيارة سوريا لإنجاز هذه المهمة المؤجلة، التي كانت عبارة عن ثمانية مقررات تفصلها عن التخرج بشكل رسمي.
المهمة تكللت بنجاح باهر توّج بتخرجها من الجامعة، بعد انقطاع استمر لأكثر من أربعة أعوام، أنساها صعوبة الطريق والرحلة إلى باب الهوى ومن ثم أعزاز، فمنبج، وصولاً إلى مدينة حلب، والعودة بالاتجاه المعاكس.
في قصة أخرى، استقبلتُ عمتي ومعها زوجتا ابنيها وأحفادها، قبل أن ينطلقوا إلى مدينة حلب، سالكين ذات الطريق الذي يمر بمناطق سيطرة الجيش الحر، قوات سوريا الديموقراطية، والنظام السوري، ويستغرق حوالي عشر ساعات. السبب الذي دفع عمتي لهذه الرحلة التي يتململ منها ابن بطوطة بذاته، هو أن "كناتها" يردن زيارة أهلهن في مدينة حلب، ولم يكن لها من القدوم بدّ!، لأن ابنيها مرتبطان بأعمال لا يستطيعان تركها في تركيا، فضلاً عن أنهما مطلوبان لقوات النظام في مناطق سيطرته.
قيل في الأمثال "مكتوب على باب الجنة… الحماية ما بتحب الكنة"، لدي الآن مثال على الحماية الجبارة التي تحب كناتها كحبها لأبنائها، وتنفي بشكل قاطع هذا المثل، وتدعو المجتمع لإعادة النظر في ثنائية الحماية/الكنّة، التي طالما أغنت التراث الشعبي السوري.
بعض الزائرين هم من الزوار الدائمين لسوريا: فزوجة صديقي الذي يعمل في سوريا، تستغل كل أيام الزيارة في كلا العيدين للبقاء مع زوجها، والعودة في آخر أيام الزيارات للعيش في منزل أهلها في الداخل التركي؛ قد تستغرب هذه العملية التي تتكرر مرتين في السنة، إلا أنها تؤمن بقاء العائلة مجتمعة على مدى ثمانية أشهر، مجموع أشهر الزيارة التي تبدأ في شهر أيار وتنتهي في شهر كانون الثاني، بينما يتبقى أربعة أشهر مجموع المدة التي تنفصل فيها العائلة.
تضمن هذه الخطة المحكمة بقاء قيد العائلة داخل تركيا، وتجنبهم إلغاء بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك)، والدخول في متاهات التهريب وتكاليفها في حال قرروا العودة إلى تركيا؛ يحافظ صديقي كذلك على عمله في الداخل السوري، الذي يبدو جيداً مقارنة بصعوبة ظروف العمل في تركيا: "على الأقل يمكنني هنا أن أحافظ على عمودي الفقري" هكذا يردد باستمرار عن أفضلية عمله في سوريا.
لكن بمعزل عن الأمثلة الفريدة نوعا ما، تبقى زيارة العيد فرصة شبه وحيدة للسوريين للالتقاء، بعد أن تقطعت طرق التهريب، بشكل شبه كامل، وبقيت مفتوحة لمن يستطيعون دفع مبالغ كبيرة تتجاوز الثلاثة آلاف دولار أمريكي للشخص الواحد.