كشفت الأحداث الأخيرة في المنطقة -وأقصد ما جرى مؤخراً في حلب وفي تركيا- والمواقف الأوروبيّة والأميركيّة المرافقة لها، شكل ومضمون الديمقراطية التي يدعمها الغرب ويسعى إلى إنشائها في العالم المختلف عنه دينياً بالأساس ومن ثم ثقافياً وحضارياً.
الحدث الأول هو التغاضي الغربيّ عن عمليات القصف اليومية للتحالف الروسيّ الإيرانيّ والنظام السوريّ ومجموعة ميليشيات المظلوميات الشيعية التي لا تنتهي، وما تخلفه من إزهاق أرواح العديد من السوريين صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، وبطريقةٍ متوحشةٍ تتطاير فيها الأشلاء، حتى تمكن من قطع الطريق بعد أن أحرق المساحة الجغرافية الصغيرة التي تعدّ الممرّ الوحيد لحلب الشرقية مع العالم، والتي صارت معروفةً باسم الكاستيللو، وحاصر حوالي (300) ألفٍ من سكانها المحاصرين أصلاً، والمعرّضين للقتل اليوميّ بالحمم الروسية. هذا الحصار الذي لم يدم طويلاً بفضل العمل المشترك لمجموعةٍ من الفصائل العسكرية التي تمكنت خلال أقل من أسبوع، وبمؤازرةٍ ودعمٍ من المدنيين المحاصرين، من فك الحصار وإبعاد شبح الذل المتمثل بما صار يُعرف بـ«الباصات الخضر». الأمر الذي وجه ضربةً قويةً للروس وذيلهم، فكان ردّهم قصفاً همجياً مستمرّاً غايته ليست ترويض المعارضين بل سحق كل أشكال الحياة لدى السوريين.
لم يكتف الغرب بالتغاضي عن القصف الروسيّ، فالحلف الذي تقوده الولايات المتحدة ومجموعةٌ من الدول الأوروبية والعربية لمحاربة الإرهاب يقتل من السوريين أيضاً تحت ذرائع مختلفة. فبحجة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (مع أن مناصرة الغرب للأنظمة الاستبدادية على المستويين السياسيّ والثقافيّ، والقصف الوحشيّ، هي بعض الأسباب الرئيسية للتطرف وزيادة عدد مناصري التنظيم)، لا يتوانى الغرب، بل يبرّر، قتل المئات من السوريين، وفي أحسن الأحوال قد يعتبر أن تقديراته أو معلوماته كان فيها شيءٌ من سوء التقدير! وما المذبحة الأخيرة في إحدى قرى منبج إلا مثالٌ على ذلك، وهي المدينة التي حاصرتها القوات البرّية للتحالف، وأقصد قوات (قسد)، من جهاتها الأربع، ولم يغِب عنها القصف اليوميّ للتحالف، وانسحبت منها قوات تنظيم الدولة (داعش) مؤخراً، لتخضع لنموذجٍ جديدٍ من الحكم لا يضمر الخير لأهلها خاصّةً ولسورية عامةً.
أما الحدث الآخر فهو ما جرى ليلة 15-16 تموز في تركيا من محاولة انقلابٍ على سلطةٍ منتخبة، وكيف كانت ردّات الفعل الغربية وتعاملهم مع ذلك الحدث الكبير في دولةٍ عضوٍ في أهم أحلافهم –الناتو. فما كتبه الصحافيّ البريطانيّ ديفيد هيرست في الغارديان صبيحة 16 تموز من أن السفارة الأميركية في أنقرة وزّعت رسالةً نصيةً لمواطنيها في تركيا تصف ما يجري بأنه «انتفاضة» (Uprising)، يشير إلى خلفية المواقف الأميركية، ومن ورائها الأوروبية، تجاه الحدث، ناهيك عن الموقف المعلن المتأخر الداعم للشرعية، ولكن المشروط والمتخوّف على الديمقراطية.
لا تهدف قراءة المواقف الأميركية والأوروبية، الممتدة حتى يومنا هذا، من مأساة السوريين ومن مطالبهم المحقة بالحرية والكرامة، ومواقفهم تجاه ما حصل في تركيا، إلى الوصول إلى أن الغرب غير ديمقراطيّ، وهذا ما ينافي أيّ محاكمةٍ عقلية، ولكن للإشارة إلى الجانب الآخر وغير المخفيّ من سياساته، فالنفعية والمصالح تشكلان جوهر الممارسة والمواقف الغربية، وليس القيم والمبادئ. فجميع الحكومات في الدول الغربية ديمقراطية، لكنهم يريدون لنا الديمقراطية والحرية كآخرين، غير أوروبيين، ومن جانبٍ آخر غير مسيحيين، ديمقراطية تحكم فيها أنظمةٌ قويةٌ فيها الكثير من الاستبداد، ومثلها من الطواعية لمصالحهم وسياساتهم. وهنا يبرز كثيراً الجانب غير العسكريّ للنزوع الغربيّ الاستعماريّ القديم والجديد، وهو تشكيل العقل والقيم في بلادنا كما يراها ويرانا، لا كبشرٍ نستحق الحياة الحرة الكريمة والتقدم، وإنما بما يخدم تلك القيم والمبادئ في تشكيل أنظمةٍ ونخبٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ وثقافيةٍ محليةٍ تلبي حاجات ومصالح الغرب، ليس كقيمٍ غريبةٍ ومفروضة. ولا ينتقص هذا من الموقف الإيجابيّ للقيم الغربية، وخاصّةً الحرية التي خرج السوريين من أجلها ودفعوا الكثير من دمائهم في سبيلها.
تكشف الأحداث الأخيرة في كلٍّ من سورية وتركيا طبيعة السياسة التي ينتهجها الغرب تجاه منطقتنا، والتي كثيراً ما تكون دعم الأنظمة الاستبدادية بحجة الاستقرار. ومن جهةٍ ثانيةٍ تبيّن أن الشعب وقواه الحية العسكرية والمدنية يمكنها أن تحدّ، لا بل تغيّر، من تلك السياسات، وأن تنجز الكثير لمصلحتها، إن قرّرت وتمسكت بحقوقها في الحرية والكرامة.