- Home
- مقالات
- ديرالزور من الذاكرة
ديرالزور من الذاكرة.. نشوء الاتجاه الإسلامي في دير الزور وتشكل جماعة الإخوان المسلمين (1) من (7)
لا تختلف الظروف التي ظهر فيها الاتجاه الإسلامي في دير الزور عما كان عليه الحال في مدن أخرى، مع الأخذ بالاعتبار حداثة المدينة وقرب عهدها بالنمو والاستقرار، وبالتالي افتقارها إلى المدارس والمعاهد العلمية الإسلامية، بالإضافة إلى قلة أعداد العلماء الذين عرفتهم المدينة وأريافها حتى عهود متأخرة.
في تلك الظروف نشأ الاتجاه الإسلامي، وتأثر بما حوله من أحداث وصراعات سياسية وثقافية، وكان على صلة باسطنبول عاصمة الخلافة، وبمصر مركز الثقافة والنهضة العربية آنذاك، ومعلوم أن الشيخ حسين الأزهري (العراقي الأصل) قدم من مصر بعد جولة طاف خلالها على بلدان عدة، قبل أن يستقر في دير الزور ويستأنف نشاطه العلمي فيها. شيخ آخر قدم من العراق وهو أحمد الراوي الكبير، الذي استقر في المدينة ونشط فيها، وكان ذا نزعة صوفية، بخلاف الأزهري السلفي النزعة، والذي تأثر على ما يبدو بالاتجاهات الإصلاحية التي كانت على أشدها في تلك الفترة بمصر والشام. ظهر في تلك الفترة علماء آخرون، بعضهم تتلمذ على الشيخ الأزهري، من بينهم حسين الرمضان ومحمد سعيد العرفي وعبد القادر ملا حويش وجعفر الرحبي.
غلب الاتجاه المشيخي في دير الزور على غيره، ونظراً للعزلة التي فرضها الشيخ حسين الأزهري، فقد اقتصرت نشاطاته على الدروس الفردية والمجموعات الصغيرة، وتخرج على يديه شخصيات كثيرة أشرنا إلى بعضها.
الشيخ حسين رمضان كان ممن تركوا أثراً كبيراً في نفوس أبناء ذلك الجيل، وتلقى عليه الكثير من التلامذة والشباب التربية والتوجيه والفقه والتمسك بأهداب الإسلام وأحكامه، وله العديد من المؤلفات. أما الجيل الثاني ممن تخرج على أولئك العلماء، فقد تولوا الخطابة وتدريس العلوم الإسلامية، وكانوا مُقلين في ذلك، لكنهم نشطوا بقوة في فترة الصعود الإسلامي في السبعينات وما بعدها.
تطور الاتجاه الإسلامي في سوريا:
كانت دمشق والقاهرة ومدن أخرى، تشهد نشاطاً فكرياً وسياسياً واسعاً منذ أواخر القرن التاسع عشر، ضمن حركة النهضة العربية، التي كان العلماء والمثقفون الإسلاميون في مقدمة قادتها ومؤسسيها. ارتكز البرنامج السياسي للإصلاحيين الإسلاميين منذ ظهورهم على مطالبة الدولة العثمانية بنظام لا مركزي يضمن للعرب حقوقهم في الحكم، ويجعل لغتهم في الولايات العربية لغة رسمية، وبموازاة ذلك الاهتمام بتحديث التعليم والثقافة، وحمايتها من أن تكون بوابة سياسية للغرب، وأن يكون في نفس الوقت وسيلة ترقٍّ وتقدم في سلم الاقتصاد والوظيفة.
كان للإصلاحيين الإسلاميين تأثير واضح في بث الروح في الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي، وإحياء النفس العروبي من خلال التركيز على تعريب العلوم والتدريس باللغة العربية وإعطاء العرب دوراً أكبر في إدارات الولاية. واتسق هذا مع فكرة انبعاث الوعي القومي التي قادتها تيارات أخرى. يذكر محب الدين الخطيب أن عبد الرحمن الشهبندر اعتبر أن النهضة في دمشق بدأت دينية، وأن حلقة طاهر الجزائري وإخوانه سارت شوطاً أبعد فيها.
ومع أن الإسلام ظل يمثل الإطار الأوسع الذي تجتمع عليه الرؤى والتطلعات، ويمثل خط الدفاع الأساسي ضد السياسات التوسعية الأوروبية، إلا أن عرى الوحدة السياسية لمجتمعات المنطقة انتقضت، مع نهاية الحرب الأولى وتفكك الدولة العثمانية، ولم يعد التضامن الديني يسيطر على الحياة الفكرية والاجتماعية للنخب السورية، وأصبح المجال مفتوحا أمام ولادة قوى جديدة وأفكار جديدة ومناخ نفسي جديد.
عوامل الافتراق وهيمنة الاتجاه العلماني:
دفعت القوى الجديدة باتجاه تحويل الحركة الوطنية إلى حركة سياسية، وظهر المحتوى العلماني كأحد خصائص القومية المميزة، والتي أيدتها الزعامات الوطنية المتتابعة والتي نمت منذ نهاية القرن التاسع عشر على حساب الولاءات الأخرى، ولاسيما الدين. وبدا هذا واضحاً في تعابيرها واصطلاحاتها، كما بدا واضحاً في معالجتها لقضايا عديدة من بينها دستور 1920.
مع مجيء الانتداب الفرنسي، كانت مقاومة الاحتلال الهم المشترك الذي اجتمعت عليه جهود السوريين وتوجهاتهم، لكن الخلاف حول الإسلام ودوره في الحياة العامة استمر في الظهور، تغذيه سلطة الاحتلال نفسه، من خلال تدخلها في التعليم والأحوال المدنية والأوقاف الإسلامية، ومحاولة فرض قوانينها وتشريعاتها في الدستور السوري.
لاحقاً، أصبح دخول القادة والزعماء الوطنيين كشركاء سياسيين مع سلطة الانتداب، وقيادتهم للحكومات الوطنية، عامل قوة لتنفيذ أفكارهم ورؤاهم، وتقديم تصور بديل لدولة علمانية عربية مستقلة، قائمة على مؤسسات غربية، والابتعاد التدريجي عن المضامين الإسلامية.
ظهور الجمعيات الإسلامية:
ظهرت الجمعيات الإسلامية في المدن الكبرى لاسيما دمشق وحلب، ومن بينها على سبيل المثال، جمعية الشبان المسلمين بدمشق، ودار الأرقم بحلب، والرابطة الدينية بحمص، والشبان المسلمين في الساحل، وجمعية دار الأنصار في دير الزور.
نشطت الجمعيات في المجالات الثقافية والتربوية، فأنشأت المدارس والمكتبات وأسست الفرق الكشفية، وانتشرت نشاطاتها بين صفوف العمال والفئات التي لم تحظ بفرص التعليم، وكان لها برامج ثقافية حافلة، ولاقت ترحيباً كبيراً في الأوساط الاجتماعية، حتى تجاوزت أعداد منتسبيها الآلاف. وكان في مقدمة أهدافها مقاومة الاحتلال الفرنسي ومنع التدخل في الشؤون الدينية والخصوصيات الثقافية للشعب السوري.
جمعية دار الأنصار في دير الزور:
تحدث عدنان سعد الدين في مذكراته عن نشوء مركز الأنصار في دير الزور، ونقل عن بعض إخوان دير الزور، ومن بينهم الدكتور حسن هويدي رحمه الله، "أن جمعية دار الأنصار أُنشئت في مطلع الأربعينيات ، وبالتحديد في عام 1941 على الأرجح، وكان أول رئيس لها هو الشيخ عبد الرزاق بن الشيخ حسين رمضان، ثم خلفه في رئاسة الجمعية الدكتور عز الدين جوالة، ثم أسندت رئاسة الجمعية بعده إلى الدكتور حسن هويدي، لتضيف اسم شباب محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى اسم دار الأنصار أسوة بما حدث في الجمعيات الإسلامية الأخرى في المحافظات السورية التي نشأت فيها الجمعيات مثل حلب وحماة وحمص ودمشق".
وكان من ضمن المؤسسين: الأستاذ أمين شاكر، والأستاذ أحمد صالح ملا عيسى، والشيخ عبد الجليل نقشبندي، الذي تحول لاحقاً إلى العمل في تكية الشيخ ويس المعروفة في دير الزور. ثم برز من الجيل الثاني في نشاط الجمعية الأستاذ أحمد الياغي والأستاذ حسين السحل وأحمد كدرو وغيرهم.
يضيف عدنان سعد الدين: "كانت جمعية الأنصار إحدى الركائز التي تشكلت منها جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ولبنان، فعندما بدأت اللقاءات بين قادة الجمعيات للبحث في دمجها، وإنشاء الجماعة الواحدة، مثّل دار الأنصار لأول مرة في اللقاء الذي عقد في دار الأرقم -والأرجح أنه كان في عام 1944- الشيخ عبد الرزاق رمضان والدكتور حسن هويدي، وكانت القضية الفلسطينية تمر في أخطر مراحلها، فألقى قصيدة في ذاك اللقاء الشيخ عبد الرزاق يخاطب فيها القدس فقال:
لا تجزعن وإن جلت مآسينا فالله في الملأ الأعلى يعزينا
"وقد حضر هذا اللقاء الأستاذ سعيد رمضان مبعوثاً من الإمام حسن البنا، والبعض يشير أن الأستاذ سعيد رمضان حضر الاجتماع التمهيدي لقيام جماعة الإخوان في سوريا عام 1942".
توسعت جمعية دار الأنصار في نشاطاتها لتشمل مدن المحافظات الشرقية، وعملت على نشر الدعوة الإسلامية، وإحياء المناسبات الدينية والتاريخية، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين، والاعتناء بالأنشطة الرياضية للفتيان والشباب. واهتمت بالمساجد في كل الفروع، وأعادت الحياة إلى مساجد كانت متروكة، أو كانت العناية بها ضئيلة، وكان مسجد أبي عابد في دير الزور تحت إشراف الدكتور حسن هويدي يلقي فيه الخطب والمحاضرات، ثم تحول المسجد بعد ذلك إلى مقر لجمعية الأنصار وإدارتها في دير الزور.
اضطلعت دار الأنصار في دير الزور، ولاحقاً الإخوان المسلمين، بمسؤولية كبيرة فاقت ما قامت به الجمعيات الإسلامية في المحافظات الأخرى، وكانت مسؤولة عن الدعوة الإسلامية في بقعة واسعة في سوريا ربما كانت تساوي ثلث مساحتها، وامتد نشاطها إلى الجزيرة والقامشلي، التي زارها مصطفى السباعي المراقب العام الأول للإخوان المسلمين. ويعترف عدنان سعد الدين بأن الإخوان قصروا كثيراً في التواصل مع منطقة الجزيرة، مع أنه كان لهم أنصار كثر فيها، وخاصة في القامشلي ورأس العين. وفي أحداث الثمانينات اعتقل العديد منهم ومكثوا سنوات طويلة في سجن تدمر.
الإخوان في دير الزور:
دير الزور كانت أحد المراكز الستة الأولى التي تفرعت عن جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وقد نشطت الحركة طيلة الأربعينات والخمسينات، وتراجعت بعد الإعلان عن حل الإخوان رسمياً استجابة لطلب عبد الناصر كشرط لإتمام الوحدة بين مصر وسوريا. وبعد الانفصال لم يسترجع الإخوان وضعهم القانوني، إلا أنهم استمروا بالعمل دون عوائق، وعادوا لمشاركاتهم في الوزارة والبرلمان.
بعد انقلاب 8 آذار تعرض الإخوان للتضييق والملاحقة كغيرهم من الأحزاب والتيارات السياسية، وتصاعدت نبرة الصراع بين الإخوان والسلطة على خلفية مسائل عديدة من بينها محاولة السلطة الهيمنة على الأوقاف الإسلامية، وتعديل مناهج التربية الإسلامية والتاريخ، ومحاولة إلغاء المعاهد الشرعية، وتكرار حالات الإساءة للقرآن الكريم، ونقل أعداد من المدرسين الإسلاميين إلى مناطق بعيدة.
عام 1966، وضمن حملات ملاحقة السياسيين والتنكيل بهم، اعتقل المئات من الإخوان المسلمين في كافة المحافظات ومعهم كثير من الإسلاميين. وفي دير الزور اعتقل الدكتور حسن هويدي، وأعضاء مركز الإخوان فيها، وعدد من وجهاء الجماعة، منهم الأستاذ أمين شاكر ويوسف طلب، وزكريا يحيى الجابر، وصالح طعمة، والمهندس رمضان سبع، والصيدلي جابر طعمة، والشيخ محمود مشوح مفتي الميادين.
أواخر الستينات، وعندما تصاعدت خلافات الإخوان فيما بينهم، كان مركز الدير من المراكز المحايدة، وحاول مع إخوان حماة رأب الصدع لكنهم لم يفلحوا في ذلك. ومنذ عام 1970 انقسم الإخوان إلى تنظيمين، أحدهما تقوده دمشق وعلى رأسه عصام العطار، والآخر تقوده حلب وعلى رأسه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
انقسم مركز الدير هو الآخر، فالتحق قسم بجماعة الأستاذ العطار يتقدمهم الدكتور حسن هويدي، والآخر مع جماعة أبو غدة وكان أكثرهم من الشباب، ولم تبرز بينهم شخصية كبيرة، والتحقت بهم مجموعة الميادين، التي برزت بقوة في تلك الفترة، وتأثرت كثيراً بالأفكار المنفتحة للشيخ محمود مشوح، الذي قاد نشاطاً قوياً في المنطقة، واشتهرت بها خطبه التي كان يحرص على حضورها الكثيرون من الدير ومناطق أخرى، وكانت أفكار الشيخ محمود وخطبه من العوامل القوية التي أثرت في الصعود الإسلامي في المنطقة، في فترة السبعينات.
معاذ السراج: من مواليد ديرالزور 1954 مهتم بتاريخ سوريا المعاصر والحركات الإسلامية، عضو في جماعة الأخوان المسلمين منذ 1973 عضو مجلس شورى وعضو مكتب سياسي سابقاً