- Home
- مقالات
- رادار المدينة
خيم العزاء في الساحل وهاجس الهرب من الموت
تقدم بلديات الساحل في الغالب خيم العزاء بشكل مجاني لأسر قتلى النظام، وتلجأ إلى تركها لعدة أسابيع في المنطقة ذاتها ليتم تغيير الأشخاص المستقبلين للتعزية وصورة القتيل الموضوعة عليها.
في محيط الخيمة تدخل وتخرج نساء متشحات بالسواد، ويتبادل الوافدون لتعزية ذوي القتيل معهم أحاديث كثيرة أغلبها يدور حول وضعهم وموت شبابهم وتذكّر كل شخص لقتيل من عائلته، وسط تأكيد على أن الوضع بات غير محمول. يقطع هذه الأحاديث الندب والبكاء على القتيل وأماني من ذويه بأن يكون الموت لهم بدلاً عنه، مع تكرار بعض العبارات بشكل مستمر، خصوصاً في الأسر التي فقدت أكثر من شاب.
مع عودة المعارك على جبهات القتال بين قوات النظام والمعارضة في كل من ريفي حماة واللاذقية، عادت خيم العزاء لتنتشر بكثافة في مدن وقرى الساحل السوري؛ كادت تختفي منذ فترة قريبة، لكن وجودها عاد أمراً طبيعياً اعتاد عليه الأهالي، خصوصاً مع استمرار الحرب لسنوات طويلة.
توافد جثث القتلى من الشباب نحو المناطق الموالية للنظام في الساحل أرهق سكانها. سابقاً مع بداية الحرب، كانت الأسر تفتخر بوجود شاب لها على جبهات القتال يقاتل في صفوف قوات النظام، ويتحدثون عنه بكونه "يدافع عن الوطن"، لكن الأمر تغير كثيراً مع الزمن، وفي الوقت الحالي انقلبت هذه الأحاديث تماماً، لتصل إلى اتهام النظام بتقتيل الشباب من أبناء الطائفة العلوية، أو مطالبة المسؤولين بتجنيد أبنائهم وإلحاقهم بصفوف قوات النظام بدلاً من "الهرب والعيش خارج سوريا والتمتع بكامل النعيم والرفاهية".
تصف هيام (إحدى نساء حي الزراعة في مدينة اللاذقية) لعين المدينة الوضع بأنه "محزن جداً، فالضريبة التي دفعها الموالون بهدف بقاء النظام في الحكم تفوق طاقتهم، الدخول إلى أحيائهم يعطي انطباعاً عن أن كافة سكانها من النساء". ترسم هيام -من خلال حديثها- صورة تراجيدية لأحياء وقرى الموالين، تظهر فيها الشوارع بدون حياة، ولا شيء لافت سوى الموت وأوراق النعي المنتشرة على الحيطان، والمتكدسة فوق بعضها البعض.
في أغلب جلسات التعزية تنصح النساء اللواتي فقدن أحد أبنائهن مؤخراً جاراتها أو أي نساء تعرف أن لديهن شاب وصل إلى مرحلة الذهاب لخدمة العلم- بضرورة عدم إرساله وتأمين طرق لسفره أو هربه خارج سوريا. ولا بد أن تتطرق الأحاديث إلى وضع أسر القتلى السيء، وتخلص عادة تلك الأحاديث إلى أن "الموت من نصيب الفقراء فقط، فحتى في الموت لا يوجد أي رحمة أو مساواة" كما تنقل هيام.
ما زال شبح الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية يخيم على العوائل التي لديها أفراد شبان، ما جعل الهاجس المسيطر على الأهالي هو أساليب التخفي أو التأجيل الدائم بهدف الدراسة أو الخروج إلى خارج سوريا نحو أي بلد آخر، أما حوادث اصطدام عناصر الأمن بالأسر عند ذهابهم لاقتياد أبنائها فكثيرة. في حي المشروع السابع في اللاذقية مؤخراً هاجمت إحدى النساء عناصر الأمن العسكري وهم يمسكون بابنها المطلوب للجيش، وبسبب صراخها بوجه العناصر خرج الجيران على مشهدها وهي تضربهم وتضرب نفسها، مكررة جملة "ابني ليس مستعداً لأن يموت فداء لأي أحد".
وحسب الناشط محمد العبد الله؛ رفضت الكثير من الأسر إرسال أبنائها للقتال خلال السنتين الماضيتين، منهم من دفع مبالغ تصل لعشرات الملايين بهدف إسقاط الخدمة نهائياً، ومنهم من لجأ إلى السفر مع أولاده خارج البلاد، فضلاً عن سعي البعض لنقل الخدمة من مناطق وخطوط الاشتباك نحو الخالية من المعارك. وتحدث الناشط عن أن ضباط في صفوف النظام كانوا قد حذروا أبناء الساحل من إرسال أبنائهم مجدداً للقتال وإيجاد حل لتسفيرهم، ناقلاً عن إحدى النساء أنها خلال زيارتها لشعبة التجنيد لإتمام معاملة تخص خدمة ولدها في الجيش، قال لها أحد الضباط أن "الزهرة التي تملكها يجب أن تحافظ عليها، ولا تسمح لأحد بأن يقطفها منها وأنه يتوجب أن ترسلها إلى مكان آمن".
تعيش أسر القتلى في الساحل تحت ضغط الفقد، بينما تتمتع بعضها -خصوصاً ممن لديهم شباب كانوا يقاتلون في صفوف الميليشيات- بثروات كبيرة نسبياً، تسمح لنساء هذه الأسر بالتجول بسيارات فاخرة داخل أحياء المدن، مع الحفاظ على "طابع الحزن" لخسارة أحد الأبناء أو الأخوة أو الزوج من خلال وضع صوره على السيارات والحرص على اللباس الأسود، كذلك من خلالها التعريف عن أنفسهن باسم القتيل "والدة الشهيد فلان".. أو "زوجة الشهيد فلان".
في حين أن من يعاني منهم من وضع مادي سيء -خصوصاً أبناء القرى- تحول مقتل أولادهم لمصدر للعيش بين الدوائر الحكومية والمنظمات للحصول على أي مساعدة، فضلاً عن المطالبة بالحصول على سلال ومعونات غذائية ورواتب شهرية على أمل الحصول على ما يسد رمق أطفالهم.