ما زالت قطاعات خدمية تتفلت من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في دير الزور، وتتجه إلى أيدي مستثمرين محليين، وبالمقابل يسعى التنظيم إلى تطويق قطاعات أخرى، فضلاً عن الأسواق المحلية المركزية. ويحكم حركتي التفلت والتطويق هاتين، على ما يبدو، مبدأ الكسب السريع والمريح، وسعي التنظيم المستمر إلى تعويض خسائره في قطاع النفط خاصة، الذي حرمه طيران التحالف الدولي من قسم كبير من وارداته.
لم يطرأ تغيير كبير على توصيل المياه إلى البيوت، سواء بالاستخدام المقنن لشبكة التمديد الأساسية في عموم المحافظة، أو شبكة التمديد البديلة التي جهزها التنظيم في مدينة دير الزور لتحل محل القديمة التالفة بسبب القصف، أو عن طريق الصهاريج التي تسيرها مكاتب الخدمات الخاصة بالتنظيم، لتمد المنازل مرة في الأسبوع، أو الصهاريج الخاصة بالأهالي. وتتلقى المكاتب الخدمية ثلاثة آلاف ليرة تقريباً لقاء المياه الواصلة إلى المنازل وخدمة النظافة والهاتف الأرضي، وتعادل ثلاثة دراهم فضية تقريباً من العملة التي أصدرها التنظيم وألزم الأهالي التسديد بها. بينما يسيّر المكتب الاقتصادي اليوم دوريات للتأكد من تعامل أصحاب المحلات بها، ويفرض على الأخيرين ألفي ليرة (درهمين) ضريبة مضاعفة على النظافة، وتفرض أجهزته على عدم التقيد بها عقوبة تصل إلى تشغيل المعاقب أسبوعاً إلى عشرة أيام في تنظيف الشوارع، وتمنعه عند ذلك من وضع لثام على وجهه، كي يراه الجميع.
وبحسب شهادات عدد من الأهالي فإن الاتصالات الأرضية ما زالت تعمل، مع تغييرات طفيفة أمنية الطابع، بتغيير الرمز الآلي كل أسبوع تقريباً، مع توقف بعض المقاسم البعيدة، بسبب قلة خبرة العاملين فيها أو فقدان قطع التبديل. بينما تستمر صالات الإنترنت في تقديم خدماتها في ظروف تكلم عنها تقرير سابق نشرته «عين المدينة» بعنوان الإنترنت الفضائي في دير الزور، من جهة الرقابة المشددة، واعتماد التنظيم على صالة واحدة في كل قرية أو بلدة، يطرحها المكتب الاقتصادي للاستثمار، بينما هناك في المدن العديد من الصالات. ففي العشارة، كمثال، يدير المكتب أربع صالات.
على أن هذا المكتب الذي افتتحه التنظيم منذ سنة لم تقف مهامه عند ذلك.
ابتلاع سوق الميادين
ينسب تجار في الميادين المكتب الاقتصادي إلى ما يسمونه «ديوان التجارة»، لكن من الصعب معرفة إن كان مصدر هذه التسمية محلياً أو أنه بالفعل ديوان أضافه التنظيم مؤخراً إلى دواوينه المعروفة.
ومنذ أيام، مرت الصفحات المحلية سريعاً على خبر انشقاق من يسمى «أبو يعقوب» عن التنظيم. على أن تجاراً من مدينة الميادين يفيدون أن أبو يعقوب هو ذاته «أمير الاستثمار في المكتب الاقتصادي في ولاية الخير» أبو فيصل التدمري، وأنه انشق باتجاه مناطق النظام وبحوزته مليون دولار. بينما يؤكد أحد المطلعين في الميادين أن المبلغ مليونان و400 ألف دولار، وحوالي 300 دينار ذهبي من العملة التي أصدرها التنظيم. كما انشق المدعو أبو هيثم التدمري، وهو «أمير الإدارة العامة في قسم الاستثمار»، دون معرفة المبلغ الذي بحوزته.
يعدد أحد تجار الميادين المشاريع التي كان يديرها أبو فيصل التدمري، منذ بداية السنة الجارية، داخل المكتب الاقتصادي، فيذكر: مول ومطعم وكوكتيل السعادة، ويشغل بناء أحدثه قسم الاستثمار ذاته، ومول الشام (سنتر الميادين سابقاً)، ويتلقى صاحبه 1200 دولار شهرياً بدل إيجار من قسم الاستثمار، بالإضافة إلى معملين لتصفية المياه وتعبئتها، ومعمل لتعبئة أسطوانات الأوكسجين. ويشرف «أمير الاستثمار» على تلك المشاريع وغيرها بشكل مباشر، باختيار المكان واستئجاره وتوظيف العمال وشراء البضائع وتصريفها وحساب الأرباح... ويتحدث التجار عن تاجر كبير في الميادين (اختفى مع انشقاق أبو فيصل وأبو هيثم) كان ينفرد باستيراد بضائع بكميات ضخمة -الأمر الذي يجري في أماكن أخرى من المحافظة- ليشتريها «أمير الاستثمار» دون أن تمر بالسوق، وبهامش ربح بسيط، لتصبح المستودعات التي يديرها أبو فيصل التدمري هي المصدر الوحيد تقريباً لتلك البضائع.
بالمقابل، تكبّل أجهزة التنظيم حركة التجارة عن طريق فرض الضرائب، والموافقات على العمل بعد الدراسة الأمنية، وغيرها من القوانين. وبذلك يكمل التنظيم عملية تطويق السوق المركزية، المستنزفة أساساً، لصالح الأسواق الطرفية في «ولاية الخير»، وتعشيق مسنناته في عجلاتها، ومن ثم امتصاص جزء كبير من وارداتها.
الكهرباء التي تخلى عنها التنظيم نهائياً
فقدت دير الزور الكهرباء مع قصف حقل العمر في الشهر الأول من السنة الجارية، وكان الحقل أهم مصادر الكهرباء في المحافظة. وعمل التنظيم منذ سيطرته على دير الزور على إعادة توزيع الكهرباء المنتجة من الحقل عبر شبكة الخطوط القديمة الصالحة، وعمال وموظفي شركة الكهرباء الذين يقيمون على الأراضي التي يسيطر عليها. بينما تصل الكهرباء أحياناً من المناطق التي يسيطر عليها النظام في حمص إلى البوكمال وريفها، حتى بلدة المصلّخة (الجلاء)، ويبيعها التنظيم لمستثمر وفق نظام الأمبيرات، الذي يبيعها للمستهلكين ويتقاضى منهم أجورها، بمعزل عن مكاتب التنظيم التي كانت تتقاضى 3200 ليرة لقاء عشرة أمبيرات من حقل العمر، قبل قصف طيران التحالف منظومة توليد الكهرباء فيه.
يعتمد الأهالي اليوم على مولدات ضخمة خاصة توزع الكهرباء على الراغبين في استجرارها. ويحدد سعر المازوت المحلي سعر الأمبير، فضلاً عن العرض والطلب والمنافسة المفتوحة في المناطق المكتظة. فبينما يباع الأمبير في أرياف البوكمال بـ15 ليرة في الساعة، يباع في مدينة الميادين بـ3300 ليرة في الشهر لثمانية ساعات يومياً، أي بـ13,75 ليرة في الساعة. أما التنظيم، الذي حاول في بعض المراحل الاستثمار في قطاع كهرباء المولدات، فقد ترك الأمر، على ما يبدو، لصعوبات التمديد والإصلاح وملاحقة مخالفات الاستجرار، والأرباح الزهيدة نسبياً.
الصحة بين التنظيم والمستثمرين
تتوزع خارطة المراكز الصحية والمشافي في دير الزور بين «القطاع العام» الذي يسيطر عليه التنظيم ويقدم عبره الخدمات، والقطاع الخاص الذي تخلى عن قسم منه، أو الذي تعود ملكيته لأفراد أو مجموعات أهلية، ويقدم الخدمات لقاء أجور يتقاضاها. ففي مدينة الميادين سيطر التنظيم على المشافي الخاصة، بدعوى وجود أصحابها خارج أراضيه، (مشفى السعيد وقد حول اسمه إلى الأندلس، ومشفى الحماد وحول اسمه إلى الإيمان، بينما أبقى اسم مشفى الشاهر)، وطرح المشافي الثلاثة للاستثمار في مزايدة علنية. فيدير مشفى السعيد اليوم، مثلاً، مستثمرون محليون، لقاء 6000 دولار في الشهر، بحسب أحد من دخلوا في المزايدة.
وهناك، على امتداد أراضي دير الزور، عشرات المراكز الصحية والعيادات الخارجية وبعض المشافي العامة التي تدار من التنظيم مباشرة، أو التي أنشأها، كما فعل في مدينة الميادين، حيث أنشأ مشفى تحت الأرض سماه مشفى الخير، عبر نفق كبير يمتد بين قبوين على جانبي أحد الشوارع، بعد أن استولى على جميع أقبية المدينة عبر مصادرتها أو إجبار أصحابها على تأجيرها له.
وتقدم في المراكز الصحية والمشافي اللقاحات المتوافرة والفحوصات العامة، بعد قطع «كرت» يشمل حتى الحالات الإسعافية، مقابل 500 إلى 1000 ليرة، ليقيّم الطبيب الحالة، وما إذا كانت تستدعي أو بالإمكان إجراء عمل جراحي لها في المشفى العام، كما يفيد عاملون في المجال الصحي. ووزع التنظيم فيها مؤخراً اللقاح الخاص بمرض شلل الأطفال، بعد أن كان تلقاه من منظمات دولية، منتصف تموز الماضي، لتنفذ الكوادر في المراكز والمشافي حملة تلقيح امتدت لسبعة أيام، وانتهت مع نهاية الشهر.
من إصدارات داعش