- Home
- مقالات
- رادار المدينة
حين يفقد البعث الرغيف.. بماذا يُغلق الأفواه؟
قد تبدو أزمة الخبز بمشاهدها في شوارع المدن والقرى السورية مظهراً مفاجئاً في الوقت الحالي، إذ بلغت أضعافَ ما بلغته خلال سني المعارك العسكرية التي ملأت الجغرافية، واستهدفت الاقتصاد الزراعي بشكل مباشر، لكن الأزمة متوقًّعة لأي قارئ مبتدئ للقضية السورية، ولعلَّ ارتباطها بالعقوبات على النظام السوري ارتباطٌ هش أمام واقع الأرقام التي تشير إلى انخفاض إنتاج القمح خلال الأعوام الثلاثة الماضية إلى درجة باتت البلاد بحاجة إلى استيراد غالبية حاجتها بعد اكتفاء ذاتي بالمادة عاشته سورية سنوات طويلة قبل عام 2011.
ليست أزمة الخبز كغيرها بالتأكيد، ليس بأثرها على المواطن السوري، وإنما بأثرها على النظام السياسي، النظام الذي يعرف القاصي والدَّاني أنه قادر على أن يضرب عرض الحائط بشكوى الملايين ممن يعيشون في مناطق سيطرته. لكن للخبز وقعُه المختلف على النظام الشمولي القديم، الذي يعشق إمساك الرغيف على نوافذ البيع التابعة للقطاع العام، ومشهد استلام المواطن خبزه من "كولبا" أو فرن تعتليه صورة القائد وشعار الحزب وعلم الدولة. الخبز في العقلية البعثية مختلف عن أي مكون آخر، يأخذ معناه الرمزي كغذاء متكامل للمواطن، لا مشكلة بغياب باقي المكونات عن مائدته، بل إن غيابها وأزماتها المتتالية، قد تكون جزءاً من فكر المنظومة وقيمها المتمثلة بضرورة تقشف الشعب في الأزمات، وصموده أمام ثلاجاته الفارغة، ومدافئه المطفأة، في أعوام المواجهات المصيرية، وسيبقى النظام يمده بطعامه (الخبز) معتبراً إياه خطاً أحمر، مثلما اعتبِر في أغلبية الديكتاتوريات التقليدية، بشكله المجرد.. خبز فقط، لا يخرج عن بنائه البعثي الجاف.
كان ورود الخبز في أدبيات البعث، مشابهاً لورود المنطلقات النظرية، ورديفاً لها، يحافظ على استقرار الغذاء الموحَّد في بطون الجماهير، التي تأخذه وتصطف خلف قائد المسيرة، يتعهّد بصونه حافظ الأسد في خطابات توازي بجديتها خطابات الحرب، ويمسك به بشار الأسد مع أول عاصفة. ثم وبشكل يبدو أنه خارج عن إمكانيات النظام نفسه، تصطف الحشود أمام نوافذ الأفران، توضع الأقفاص لمنع الفوضى، وتدجين الناس في الطابور، ليخرج الخبز مهترئاً هنا، ومستطيلاً هناك، يستهلك انتظاراً يومياً من قبل المواطنين. وتعصف رياح التغيير في مديريّات الأفران، فيُقال مدير في هذا الفرن، ومشرف توزيع في ذاك. بأسلوبية مكرورة لم تأتي أُكُلها منذ عقود.
”عبدالله“ مهندس يعمل في مؤسسة حكومية بدمشق، تغيَّب خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني عدة أيام عن عمله، بموجب إجازة تم احتسابها من إجازاته السنوية، ومبرر غيابه كان انتظاره على نافذة الفرن لمدة تتراوح بين ثلاث ساعات ونصف وخمس ساعات، ليحصل على الخبز الخاص بعائلته وعائلة أخيه المتوفي، يصف أثر الوقوف على النافذة، بأنه "يكسر القلب"، وأن الحشود المنتظرة هي فئة لا تقوى على شراء الخبز "الحر" بأسعاره المرتفعة، هي حشود من العاطلين عن العمل أو موظفي القطاع العام أو الفئات الضعيفة التي تشكل اليوم أكثر من ثمانين بالمئة من المواطنين في مناطق حكم الأسد.. يقول علي: "يتواتر حال الناس ما بين اندفاع وصراخ وتدافع، وبين صمت وانصياع وانتظار وجلوس هادئ على حافة الرصيف أمام نافذة الفرن.. الجميع يموتون ببطئ".
في ريف الساحل السوري، خزان الجيش الأول، وجبال المقابر التي باتت أوسع من القرى، نجد ستينياً فقد من فقده في الحرب، يجلس موحَل القدمين، بحذاء بالٍ، وعيون تنظر إلى الطابور، وجسد ينهض بين حين وآخر ليتقدم خطوة واحدة باتجاه النافذة البعيدة، التي ينال منها موظفون لم تعد رواتبهم تكفي لدفع فواتير الكهرباء المقطوعة خبزَهم، ممتزجاً بشتيمة جاهزة لدى موظف التوزيع القادر على أن يتحول إلى لواءٍ في المخابرات الجوية خلال دقائق، بما مُنِح من سلطة على عدة أرغفة وأكياس نايلون. فيما يدرك غالبية المصطفين في هذا الطابور، أن تغيير مدير الفرن، والمحافظ، وحتى الوزير، لن يشعل النار في الأفران، فقد بات تكرار الأزمات دليلاً مادياً واضحاً على أن هناك منظومة كاملة ابتعلت أبناءهم قبل أن تبتلع الخبز.
متداولة على الإنترنت