- Home
- مقالات
- رادار المدينة
حكايات على هامش مجزرة داريا في ذكراها التاسعة
كان يوماً بكل الأيام القاسية التي مرت بعده؛ لا أعرف كم بقينا ممددين تحت أغصان كثيفة من الباذنجان، لكني لا أزال أعيش رهبة الموقف ووقع الأحذية العسكرية وهي ترتطم على مسافة لا تبعد سوى بضعة سنتيمترات عن مخبئنا.
قبل دقائق كان الشقيقان اللذان يديران المنزل الريفي الذي اختبأنا في حرشه الخلفي يتصايحان، أحدهما يصر على تسليمنا للجنود الذين يطرقون باب المنزل، بينما يقول الثاني بنبرة حاسمة "سوف يعدموننا معهم على الفور". كنا ثلاثة شبان نرتجف من الخوف، مع ذلك كنا نلقي بعض النكات بصوت هامس. يدخل جنود النظام بكامل عنجهيتهم ويفتشون، أنظر إليهم من بين الأوراق الخضراء وقد حبست أنفاسي كي لا يسمعونها. ينتهي مشهد الرعب هذا بخروج الجنود الذين لم يتمكنوا من رؤيتنا.
بعد مضي تسع سنوات ما زلت أعيش المشهد بكل جوارحي، تنبض دقات قلبي بالقوة ذاتها، يجف ريقي ويبح صوتي، وتصبح ضحكتي صفراء اللون.
قبل ذلك.. في البداية
في اليوم الثاني من عيد الأضحى عام 2012 بدأت أولى طلقات المدفعية تدك مدينة داريا، عشنا اليوم الأول من العيد بشكل اعتيادي، دون أن يخطر في بالنا أن بضعة أيام تفصلنا عن واحدة من أكبر مجازر النظام، وأنني سأعيشها بكامل تفاصيلها حيث سيكون "الخارج منها مولوداً" من جديد.
حشد النظام تقريباً 13 ألف مقاتل، وحاول دخول المدينة من عدة مداخل، لكنه ووجِه بمقاومة عنيفة، وهذا ما جعله يلجأ إلى استعمال المدفعية ثلاثة أيام متواصلة حتى هدأت آخر رصاصة من بندقيات الثوار، الذين هرب العشرات منهم فعلاً بعد أن خبؤوا أسلحتهم، فمع انتهاء الأيام الثلاثة للقصف قال القادة لمئات العناصر الشبان إن عليهم "تدبير أنفسهم منذ اللحظة"، ويجب وقف القتال والخروج من المدينة أو الاختباء في أمكنة يستبعد وصول النظام إليها. وجد العناصر أنفسهم في مهب الريح. "لم تمت المقاومة ما دامت المعركة خاسرة منذ البداية؟" كانت الأحاديث السريعة التي جرت مع غروب شمس يوم الجمعة توحي بفشل ذريع في خطة التصدي للنظام..
بعد مدة من الزمن ستوجه أصابع الاتهام في التفريط بالمقاتلين إلى "أبو تيسر زيادة" أحد أهم مؤسسي الجيش الحر في داريا والغوطة الغربية، وستحل "كتيبة سعد بن أبي وقاص" مقابل إنشاء المجلس المحلي لمدينة داريا وكتيبة شهداء داريا.
كانت ردات فعل العناصر وقادة المجموعات عشوائية: تمكن "أبو نضال" من دفن سلاحه والخروج نحو صحنايا المتاخمة، أما "أبو وائل حبيب" و"أبو عمر" و"أبو كنان" فقد اختبأوا تحت أكوام من الأغصان اليابسة، بينما جلس "محمد" في منزله بعد أن دفن بندقيته الكلاشنكوف الجديدة في "التبان" حيث يخزن عمه العلف والتبن لأبقاره التسعة، "أبو نضال عليان" وهو من مؤسسي الحراك الثوري في المدينة تنقل من مكان إلى مكان هرباً من مداهمات الجيش، أما المئات من المقاتلين والشبان المطلوبين للخدمة العسكرية ففروا من مركز المدينة، وانتشروا بين الحقول شرقي وغربي داريا آملين بالحصول على فرصة للنجاة.
التفتيش
بدأ الجيش بالتفتيش صبيحة يوم السبت. كل نصف ساعة تقريباً كنت أتصل بإحدى النسوة من قريباتي لأسأل عن الأماكن التي توغل إليها الجنود، كان ذلك مفيداً لتحركاتنا، إذ نجح البعض في التسلل إلى حارات تمت مداهمتها منذ الصباح، لكن ذلك كان في منتهى الخطورة بسبب تمركز عشرات القناصين على سطوح الأبنية واستهدافهم لأي حركة في الشوارع.
مجموعات كبيرة تابعة لجيش النظام وأخرى للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري (قيل إن مجموعات أخرى تابعة لإيران وحزب الله كانت في صحبتهم) انتشروا في الأحياء وفتشوها بيتاً بيتاً؛ مداهمة المنزل كانت تتم مرتين على الأقل، وسعيد الحظ من لم يداهم مرة ثانية لأنها كانت تتم عبر مجموعات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة المتوحشين، وتم قتل معظم ضحايا المجزرة خلال المداهمات الثانية.
في أغلب الأحيان كان معظم أفراد المنزل الذكور يعدمون رمياً بالرصاص أمام العيون الدامعة للنساء، نساء كثيرات أعدمن أيضاً أمام أطفالهن، وأطفال أمام أمهاتهم. شاهد أحد أقاربي جندياً مجرماً وهو يدعس بحذائه الصلب على رأس طفل رضيع مهشماً إياه؛ كان ذلك أقسى المشاهد المرعبة.
بدت المدينة حينها أشبه بساحة إعدام كبيرة. اقتيد جارنا إلى غرفة مجاورة وسجل التلفزيون السوري الذي كان يرافق الجنود مقابلة معه، تحدث الشاب البائس عن إرهابيين يقتلون الأبرياء، وعن دعم من جهات خارجية للثوار؛ أغلقت المذيعة زر التسجيل ثم دوت طلقة من بندقية ووقع جارنا قتيلاً.
في إحدى الحارات اختبأ ابن خالي المتخلف عن الجيش في سقيفة المنزل، قال لي خالي إنه لمح المجنزرات وهي تتقدم نحو المنزل، حبس الجميع أنفاسهم بينما كان الجنود يفتشون عن مطلوبين، وحين خرجوا أقسم خالي أن يرسل ابنه لتأدية الخدمة العسكرية التي بقي يؤديها أكثر من ست سنوات؛ لقد نجحت خطة النظام في بث الرعب بين عشرات السكان، وكانت المجزرة بمثابة إنذار شديد اللهجة للسكان الذين شارك معظمهم في تشييع شهداء داريا مثل غياث مطر، والتشييع الذي جرى بعد الجمعة العظيمة التي سقط خلالها أول ثلاثة شهداء.
بعد قرابة أسبوع من حدوث المجزرة عاد شباب الجيش الحر الفارون من المدينة، ما زلت أذكر كيف كان البعض يبصق على الموكب الطويل الذي كانوا يتجولون من خلاله في شوارع المدينة.
عند العصر كان النظام قد انتهى من تفتيش المنازل، وبدأ دور البساتين الكثيفة الغاصة بدوالي العنب وأشجار الجوز والتين والتوت الهزاز. معظم شباب المدينة كانوا هناك. بدأ الجيش بتمشيط الكروم؛ كانت الرشاشات تفرش الرصاص على كافة الأراضي والأشجار وحقول الملوخية والباذنجان والذرة، تتعالى صرخات المصابين بينما يهرب الناجون الذين كانوا مختبئين في الحقول أمام الدبابات ومئات العناصر الذين بدأوا بالانتشار.
مرت رصاصة من جانب أذني اليسرى وارتطمت بباب حديدي. كانت فرص النجاة في ذلك اليوم والذي تلاه شبه معدومة، بينما توفرت جميع أسباب الموت، لذلك هربت مع مجموعة من الشبان نحو مدينة صحنايا وسط الرصاص المنهمر وملاحقة شديدة من الجنود.
حدثت مجازر رهيبة في الحقول؛ اختبأ شبان خائفون في قسطل قديم للصرف الصحي، وعندما وصل إليهم الجنود نصبوا رشاشاً وقاموا بتوجيه الرصاص إلى القسطل، فتحول الشبان إلى جثث هامدة مقطعة الأوصال.
لم يتمكن "محمود" من الهرب عندما باغته مئات العناصر، لذلك فضل الاختباء أعلى شجرة التين الكبيرة وسط الحقول، لكن هذه الفكرة لم تؤمن له النجاة، فقد صوب الجنود أسلحتهم نحو الشجرة، وانهمر الرصاص كالمطر، وسقط محمود قتيلاً تحت أقدامهم.
الأخبار في صحنايا
في الطريق إلى صحنايا التي كانت وجهة معظم الشبان الفارين من الحقول الغربية للمدينة التقيت بمجموعات أخرى من الشباب، كنا كلما رأينا سيارات عسكرية نختبئ في حقول داريا التي كانت رحيمة جداً معنا في ذلك اليوم. وصلتنا أول الأخبار حول عدد الضحايا داخل المدينة، أعدم قرابة 50 شخصاً في قبو بالحي القبلي. جثث هنا وجثث هناك. امتلأت حدائق البيوت بجثث الأقارب والأزواج والأبناء التي دفنت على عجل بالقرب من أشجار الليمون والورد الجوري.
في حارتنا شاهدت النسوة المرتعبات -من الخوف على أبنائهن المتراكضين في الحقول- سيارة مسرعة تحاول دخول الحارة والنجاة من القناص المتمركز على البناء المجاور، تمكن سائق السيارة من الوصول إلى الحارة، لكن القناص كان قد تمكن من قتل زوجته وطفلته الصغيرة وإصابة الرجل إصابة بالغة.
كل حارة في داريا ستروي قصة أو اثنتين من قصص موت مشابه.
في صحنايا اختبأت بصحبة شابين منشقين عن الجيش في أحد الأبنية غير المكسوة، كان هناك عشرات الشبان المطلوبين يبحثون عن مخبأ، وفي الأسفل انتشرت سيارات عسكرية تحوي رشاشات مثبتة، وبدأ صياح الجنود علينا طالبين منا النزول لتفييش أسمائنا، كان النزول يعني الموت، وهنا تدخل عناصر اللجان الشعبية المكونة من الدروز وهم غالبية سكان صحنايا، وطردوا السيارات.
في الليل عرفنا أكثر عن حجم الضحايا، فقد جارنا بينما كان يتجول على دراجة هوائية ليلاً بعد انحسار الجيش إلى وسط المدينة، وبعد يومين عثر عليه في إحدى الشقق مع شابين آخرين جثثاً مشوهة. يقول أحد الجيران الذي شاهد الحادثة من أولها إلى آخرها: طلب مني عناصر الجيش الذين احتلوا الشقة المقابلة لشقتي ونشروا القناصات على النوافذ، أن أحضر "عدة المتة"، كانوا طوال الليل يشربون المتة ويعذبون الشبان الثلاثة بأدوات حادة، وعندما طلع الصبح كان الثلاثة قد فارقوا الحياة.
اليوم الثاني كان قاسياً أيضاً لكن أغلب ضحايا المجزرة الذين يتجاوزون الـ700 سقطوا في اليوم الأول. رجعت ليلاً إلى داريا مع مجموعة كبيرة من الشبان، وعندما وصلت سارع جميع أفراد الحي إلى عناقي، فقد ظنوا أني قتلت في الحقول. لم ينم أحد تلك الليلة، فقد جرحت النفوس جرحاً بليغاً، وكانت الكثير من الأمهات ينتظرن غائبين لن يعودوا.
الاختباء بين الباذنجان
فجر اليوم التالي كنت أقرأ كتاب "أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر" لـ أنيس النصولي، ألقيت الكتاب جانباً بعد صياح أهل الحارة بوجوب هرب الشبان؛ فالجيش عاود مداهمة البيوت؛ لم تكن أمامي وجهة محددة، فكل منعطف قد يعني الموت رمياً بالرصاص. غلبت رائحة الدماء المستباحة الروائح المعتادة لليمون وأشجار المليسة والياسمين المنتشرة في داريا.
وجدت مخبأ جيداً في منزل ريفي كبير، حيث شكل الباذنجان البلدي الذي أعشقه من كل قلبي أفضل مخبأ كتب الله لي من خلال أوراقه العريضة وثماره السوداء عمراً جديداً.
في الأثناء كنت أراجع أفكار الكتاب الذي كان يوزع مجاناً مع أعداد جريدة "الثورة" التابعة للنظام، وكان يروي تفاصيل عن عصر اليقظة العربية. راودتني الفكرة التالية وأنا أحاول أن أكتم ضحكات محبوسة كادت تعرف الجنود على مكاني: نعم.. شاطرون في طباعة الكتب دون اعتبار لما كتب فيها من محفزات على الثورة.. لدرجة أن أعظم كتاب ضد الاستبداد (طبائع الاستبداد للكواكبي) تعرفنا عليه من ضمن هذه السلسلة.