- Home
- مقالات
- رأي
حرب درعا المستعجلة وانشطار الممانعة
تركت الولايات المتحدة فصائل الجبهة الجنوبية لمصيرها، هذا لم يعد سرّا بالطبع، وما حدث في حوران والجولان من تطورات ميدانية، يجيب عن أيّ استفهام في هذا الخصوص، لكنّه يطرح أسئلة أكثر إلغازاً لجهة مسبباته وتداعياته على سوريا ومستقبلها.
لا تنفع محاولات الإجابة العجولة هنا، لا تقدّم -وهي بكل الأحوال،لا تستطيع، ولا تملك ما يكفي من الحقائق- تفسيرات معقولة ومنطقية، وبقدر ما سيثير هذا الواقع شهية نظريات المؤامرة، فهو سيظل بعيدا عن مدركات التحليل السياسي الكلاسيكية، كونه شهد تحولاً ميدانياً صاعقاً، وتدهوراً غير مفسّر، في جبهة يفترض أنّها الأكثر صلابة.
ومع أنّ ما حدث في حوران، وعلى جبهتها الشرقية تحديداً، قد قدح زناد أسئلة مضمرة تتعلق أساساً بتسليح الثورة وسلوك الفصائل، في حوران وسواها، إلّا أنّه أيضاً وبنفس الدرجة من رد الفعل الاكتئابي، شكّل سانحة لتنظيرات قاصرة ومستعجلة -ومغرضة أحياناً- عن انتهاء حلم الثورة السورية، وانتصار نظام السفّاح بشار الأسد وداعميه الروس والإيرانيين. والمفارقة هنا أنّ تطورات حوران عرّت فرية الممانعة، في أحد أدقّ لحظات حاجتها إلى الدعاية المنافقة التي أدمنت عليها لعقود طويلة.
كانت ثمة محاولة أولى فاشلة، بعد اجتياحه للغوطة بالقصف الروسي الهيستيري والأسلحة الكيماوية، ألمح الأسد إلى نواياه تجاه الجنوب، فجاءت الرسالة الأميركية صارمة بمنعه، وانحسر الحديث حول المنطقة لفترة من الزمن شغلتها جولات تفاهم بين إسرائيل وروسيا، قادها بصورة مباشرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويبدو أنّ تفاهماً قد حدث فعلاً إزاء الهاجس الإسرائيلي المتعلق بالوجود الإيراني، ليعلن نتنياهو من موسكو صراحة أن لا مشكلة لإسرائيل مع الأسد، الذي "لم يطلق نظامه ونظام أبيه قبله رصاصة واحدة على إسرائيل طيلة أربعين عاماً". نال التفاهم بركة الولايات المتحدة، وتركت فصائل حوران لمصيرها، وليس ثمة أوهام يجب تركها للتخمين حول اختلال موازين القوة، رغم أنّ هذا بالقطع ليس تفسيراً مبرراً لسرعة تهاوي قادة تلك الفصائل نحو الاستسلام الذي بات اسمه (مصالحات).
لا يجب طبعاً استسهال رجم أولئك القادة جملة بالخيانة و"الضفدعية"، أيّاً كان الموقف منهم، فالحسابات العسكرية على الأرض مختلفة عن التنظيرات السهلة هنا. كما أنّ من غير الواجب ولا من المفروض، أن تكون هذه الحالة شفاعة من التساؤل حول أكداس الأسلحة، التي سلّمت للروس والنظام دون قتال، ولا حول شعارات أولية طنانة من مثل "تسقط موسكو ولا تسقط درعا"، فالوقع أن درعا سقطت بسرعة مذهلة. لا نسعى هنا إلى إقامة محكمة لهذا أو ذاك، إنّما هو مدخل الى متاهة خانقة من الأسئلة التي قد لا تجد جوابها قريباً، وإلى عدم الاستسلام لنظريات المؤامرة المزمنة التي تحتكر تفسير كل ما لا يمكن قبوله.
العامل الإسرائيلي واضح وضوح الشمس، وتصريحات أكبر مسؤول في إسرائيل، لا تترك مجالاً لكثير من المخاتلات اللفظية والتفسيرات العرجاء حول موافقة الدولة العبرية على استعادة جيرة الأسد في الجولان وحوران؛ غير أنّها هذه المرة ستكون جيرة مشروطة بانتداب روسي قرره نتنياهو، وباشتراط واضح لغياب إيران عن الصورة الحدودية -لمسافة تتباين الأرقام المطروحة لها بين 40 و80 كيلومتراً- وهو ما لا يمكن الجزم بأنّه وعد سيمكن لبوتين الالتزام بتنفيذه.
لم تظهر إيران أي إشارة للموافقة على ما يتردد أنّها صفقة روسية/ إسرائيلية، بموافقة أميركية، على عودة النظام للسيطرة على الشريط السوري المقابل لخط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل عام 1974، والذي حذرت إسرائيل غير مرة، بأنّها لن تسمح بانتهاكه. والواقع أنّ ميليشيات إرهابية موالية وممولة إيرانياً، تعمّدت إظهار وجودها في حوران، وعلى الخصوص خلال فترة العمليات القتالية المحدودة التي سبقت اتفاقات التسليم والتهجير، والتي بدورها باتت شأناً معتاداً في سوريا. ومع أنّ آلة البروباغندا الروسية تجمل كلّ القوات المشاركة في الهجوم تحت مسمى (الجيش السوري)، فإنّ من الثابت أنّ بعض المليشيات الإيرانية قاتلت تحت راية جيش النظام، بل إنّ بعضها غيّر لباس قواته الميداني إلى زيّ القوات السورية الخاصة، وما تسمى قوات النمر، التي يقودها من يقال إنّه العميد سهيل الحسن، الذي استعاد شبابه دون سابق إنذار، وبات الوجه المفضل لدى قيادة الحلف الداعم للأسد في قاعدة حميميم.
ما الذي يجعل إسرائيل، التي تضرب إيران في طول سوريا وعرضها، تسكت عن وجود إيراني مموه في منطقة متاخمة للجولان المحتل؟ حتى وإن كرر نتنياهو عباراته المعروفة بعدم قبول أي وجود لإيران في أيّ بقعة بسوريا.
هل الأسد آمنٌ إلى هذا الحد؟ أم هل أعطى الروس صفقة مشفوعة بتعهد ينقل الكلفة اللاحقة إلى إيران في حال لم تلتزم بالاتفاق؟ وهذه الكلفة قد تكون حرباً واسعة النطاق يبدو أنّ همّ بوتين الوحيد ينحصر في إخراج الأسد منها، أو بعبارة أوضح، في إنتاج حالة شبيهة بعلاقة الجيش اللبناني مع حزب الله، خلال الحروب السابقة على أرضه، بحيث تقوم إسرائيل بتركيز عملياتها العسكرية ضد الحزب وتحييد الجيش.
أليس هذا هو جوهر الممانعة ؟ الإبقاء على هيكل آمن للسلطة داخل الدولة، وتسليم مصائر المدنيين إلى حسابات أيديولوجية متهورة ومليشيات إرهابية يزعم أنّها مضبوطة من مركز قيادة واحد، وصفقات تسوية مع إسرائيل تحت غبار شعارات عالية السقف.
تأكيد نتنياهو من موسكو أن الأسد جار آمنٌ -كما كان أبوه- قد يدعم فرضية أنه قادر على الإمساك بأمن الحدود، بينما يتواصل الاشتباك المتقطع بين إسرائيل وإيران. وهذه الفرضية إن كانت صحيحة، فهي ستعني أن درعا التي كانت أحد مناطق خفض التصعيد -الوحيدة التي تشارك أميركا في رعايتها- ستتحول إلى منطلق لعلاقة جديدة بين الأسد وحلفائه، إذ ستضمن روسيا حياده -وأمنه- في الاشتباك الإسرائيلي الإيراني على أرض سوريا، بينما سيلتزم هو بعلاقة منفعة بقاء مستمرة مع إيران، التي ستحتفظ بسطوة على أدوات الدولة السورية، لضمان استمرار سرديتها الدعائية المرهقة بحصار أميركي سيصبح شديد الوطأة مع دخول العقوبات حيز التنفيذ مجدداً، اعتباراً من شهر آب.
وربما يراهن الروس والإسرائيليون على أنّ إيران لن تكون قادرة على الاستمرار في تمويل عملياتها داخل سوريا بعد ذلك، والمفارقة أنّ هذا يمثل مكسباً للأسد، الذي قدمت له روسيا حبل نجاة عجزت عنه إيران، رغم كلّ خسائرها المالية والبشرية الهائلة على مدى سنوات الحرب.
لكن هذا سيناريو افتراضي فقط، وسيمثل خسارة صافية لإيران، وعكسه سيعني أنّ درعا ستكون بداية اشتباك بين داعمي الأسد، إذ أن إيران كدولة/ تنظيم لديها تاريخ حافل بالهروب إلى الأمام، ويمكنها توريط كلّ أطراف الصفقة بحرب واسعة النطاق، على غرار ما حدث في لبنان عام 2006 للخروج بقرار دولي أبعد حزب الله -نظرياً- عن الحدود، لكنه شكّل اعترافاً بسطوته على لبنان.
تستند كل معطيات الصفقة، التي يروّج لها إعلامياً، على أن روسيا ستبعد إيران إلى النقطة التي تريدها إسرائيل، لصالح مكسب استراتيجي للأسد، الذي تعتبر إيران نفسها أنه ما كان ليكون موجوداً الآن لولا تدخلها، في مقابل نكران -معتاد في سيرة آل الأسد- للحلفاء عند انتفاء الحاجة إليهم. والواقع أنّ بوتين ليس قادراً على تنفيذ هذا الشق من الصفقة، والأسد سيجد نفسه في مواجهة ترسانة الابتزاز الإيرانية والتي بينها مجموعات إرهابية سنيّة، شكلت رافعة تدخل الروس، وحاجز حماية النظام من التدخل الغربي.
درعا ليست نهاية الحرب حتماً... بل ربما هي بداية حرب الممانعة الداخلية.
نازحون من درعا - بلدة الرفيد قرب الشريط الحدودي مع الجولان المحتل
عدسة علاء الفقير- خاص عين المدينة