- Home
- مقالات
- رادار المدينة
تنظيم الدولة ينسحب مخلفاً الألغام
الحدود السورية التركية - AP
بجانب سريرها في المشفى الحكومي بمدينة كيليس التركية تجلس رحاب (10 سنوات) ومعها أقلام تلوين لترسم خمسة أصابع على الدفتر الذي قالت إن طبيبة المشفى هي من اشترته لها. وعند سؤالي عن سبب رسمها الأصابع الخمسة أجابت أنها وأخواتها الثلاث وأمها هم من في الصورة، وعندما يعود والدها من المعتقل في سجون الأسد سترسم إصبعاً سادساً.
لا تستطيع رحاب الوقوف على قدميها منذ أن انفجر بها لغم أرضي وهي تلعب في بيتها في بلدة أخترين، التي عادت إليها مع أسرتها منذ أربعة أشهر، بعد تحريرها من تنظيم الدولة، مخلفاً طفلة عاجزة نجت من الموت «بمعجزة إلهية» على حد قول الطبيبة التي تعالجها.
رحاب واحدة من مئات الأطفال والأفراد الذين تعرضوا لإصابات بليغة نتيجة الألغام التي زرعها التنظيم في كل مكان وكيفما اتفق، فأودت بحياة الكثير منهم وخلفت الباقين بعاهات دائمة.
تعد الألغام من الأسلحة غير الفتاكة، بيد أن تأثيرها يمتد طويلاً بعد انتهاء الحروب، لتضيف إلى قوائم الضحايا ضحايا جدداً في كل مرة، يعيشون معاقين مبتوري الأيدي أو الأرجل أو فاقدي إحدى الحواس كالسمع أو البصر.
من يزرع الألغام؟
منذ بداية الشهر السابع من عام 2016، مع انطلاق معارك كلٍّ من درع الفرات وقوات الحماية الكردية ضد تنظيم الدولة، شهدت قرى الريف الشرقي لحلب زراعة كبيرة للألغام الأرضية، وخصوصاً في الطرق الزراعية وبعض البيوت التي تعتبر «خط جبهة»، لإعاقة تقدم هذه القوات.
ويروي الأستاذ حامد العلي، من قرية الشيخ ناصر في الريف الشرقي، أن التنظيم شعر بقرب انتهاء وجوده في المنطقة منذ بداية ذلك الشهر، وأن رتلاً من عربات تابعةٍ له، مكوناً من سيارة جيب مموهة وثلاث سيارات بيك آب دفع رباعي، دخل القرية محملاً بالعبوات والألغام اليدوية والإلكترونية التي قاموا بزراعتها في الطرق الترابية وبعض البيوت، ونبهوا أبناء القرية إلى عدم الاقتراب من المنطقة. ويؤكد الأستاذ حامد: «كنا نسمع أصوات انفجارات الألغام كل يوم جراء مرور الحيوانات البرية العابرة كالقطط والكلاب».
ويؤكد علي، المسؤول عن الترجمة للسوريين في قسم الطوارئ في مشفى كيليس، أن أكثر من مئة حالة إسعافية دخلت المشفى نتيجة انفجار الألغام خلال الشهرين الماضيين، معظمهم من الأطفال.
متطوعون بأدوات بدائية لتفكيك الألغام
يعتمد المتطوعون الذين يقومون بتفكيك الألغام على أدوات يدوية لإزالتها، وهي مسابر رقيقة وطويلة لتحديد مكان اللغم، ومطرقة وبانسة لتفكيكه.
يقول محمد رسلان، أحد المتطوعين في مدينة منبج، والذي اكتسب خبرته في تفكيك الألغام من وجوده في كتيبة الهندسة أثناء خدمة العلم: «ليست لدينا معدات، والذين يقومون بتفكيك الالغام معدودون على الأصابع. ويعتمد تنظيم الدولة على طرق جديدة ومبتكرة في زراعة الألغام». وعن طريقة تفكيك الألغام يخبرنا: «تتم في البداية عملية الكشف عن اللغم من خلال المسبار. وعند تحديد مكانه نحفر حوله حتى يظهر بشكل كامل، ثم ننتزعه بحذر بواسطة حربة البندقية ونعطله، وأحياناً نقوم بتفجيره».
محمد، الذي أزال خلال الأشهر الماضية أكثر من 500 لغم على حد قوله، قال إن الألغام مزروعة في كل الأماكن؛ في البيوت والمدارس وداخل الأضواء وعلى أبواب البيوت وتحت الأشجار وفي الطرق الزراعية، ما يجعل المهمة صعبة للغاية. إذ يقوم المتطوعون بالكشف الأولي على البيت أو الأرض، و«يستغرق الأمر ساعات كثيرة وربما أياماً». ولا يعد هذا الكشف دقيقاً، فقد تكون هناك ألغام مموهة أو مخفية.
بعض المتطوعين ليست لديهم الخبرة الكافية، وفقد بعضهم الحياة نتيجة انفجار لغم، وكان آخرهم أحد متطوعي قرية العريمة. يقول أبو حسين، والده، إنه لم يرد لابنه هذه المهمة الخطرة، وخصوصاً بعد أن فقد إحدى يديه أثناء إزالة الألغام، ولكنه كان يصر على الذهاب في كل مرة يطلبه فيها أحدهم. وكان قد اكتسب خبرته من مرافقته أحد الذين يعملون في هذه المهنة. في المرّة الأخيرة لم يعد، «فقد كان اللغم ثنائياً» حسبما قال الذين رأوا المكان. قام بتفكيك الأول ما أدى إلى انفجار الآخر، تاركاً طفلته الصغيرة بلا أب.
يسمى هذا النوع من إزالة الألغام، بحسب الأمم المتحدة، النوع الإنساني. ويهدف إلى استعادة الأمن على مستوى المجتمع المحليّ بتطهير الأرض من الألغام الأرضية ومن مخلفات الحرب التي لم تنفجر، بحيث يمكن للمدنيين أن يعودوا إلى ديارهم وإلى ممارسة أعمالهم وضمان سلامتهم في المناطق التي تم تطهيرها. وفي الغالب تقوم بهذا العمل وحدات عسكرية أو مؤسسات مختصة، وفي ظل غيابها يلجأ الأهالي إلى المتطوعين أو إلى أفرادٍ يتقاضون مبلغاً من المال يصل إلى 25000 ليرة لتفكيك اللغم الواحد، من أجل العودة إلى بيوتهم.
وكان فريق عمليات منظمة smac قد أعلن منذ شهر خلو بلدة أخترين من الألغام واعتبارها آمنة بعد أن قام الفريق بالكشف عن الألغام وإزالتها. وذكر مدير العمليات عدنان الحسن لراديو الكل أن تنظيف المدينة استغرق شهراً كاملاً، وأنه تم التوجه إلى المنطقة بعد عدّة بلاغات من المجلس المحلي والمدنيين. مؤكداً أن تنظيم الدولة قام بزراعة 400 لغم أرضي قبل خروجه من القرية، موزعة بين البيوت والمدارس والمرافق العامة والأراضي الزراعية.
الأغنام ككاسحات ألغام
درج في الآونة الأخيرة استخدام قطعان الأغنام ككاسحات ألغامٍ في القرى التي حررت من التنظيم. يقول الحاج أبو علي من قرية الكاوكلي في الريف الشرقي لمدينة حلب: «بعد أن كنا نؤجر الأراضي لرعاة الأغنام صرنا ندفع لهم النقود للرعي في أراضينا التي لم نستطع حصادها خوفاً من وجود الألغام». ويتم الاتفاق مع الرعاة على إطلاق أغنامهم في الأرض التي يتكفل صاحبها بدفع ثمن «كل رأس غنم ينفق نتيجة انفجار لغم به» بحسب قول أبو علي.
وقد أدت زراعة الألغام في هذه المناطق إلى تحول مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية إلى أرض مهجورة نتيجة خوف المزارعين من العمل في أراضيهم.
إلى من نلجأ؟
يقتصر عمل الفصائل على النوع العسكري من إزالة الألغام، وهي عملية يقوم بها جنود مدربون لفتح ممر آمن بحيث يمكن لهم أن يتقدموا أثناء القتال. وتعنى هذه العملية بإزالة الألغام التي تعترض الطرق المطلوبة لتقدم الجنود أو انسحابهم أثناء المعركة. وتستخدم فيها كاسحات الألغام والهراسات وأجهزة قطع الحشائش والحفّارات، التي يتم ربطها بجرارات مصفحة لتدمير الألغام في الأرض. بينما لا تستطيع هذه الأدوات الدخول إلى البيوت التي عششت الألغام في داخلها، وليست هناك وحدات هندسية تقوم بهذا العمل.
منذ شهرين انتقل خالد الأحمد وأسرته للعيش في قرية كفره بالقرب من مدينة اعزاز، بعد أن حررت في الشهر العاشر من عام 2016 من تنظيم الدولة. ولكن لغماً انفجر في البيت الذي سكنه وأدى إلى فقدان أحد أطفاله بصره بالكامل والآخر إحدى عينيه. يقول: «استأجرنا البيت بـ15000 ليرة شهرياً من المجلس المحلي في القرية. وراجعنا المجلس أكثر من مرة ليكشف عن وجود الألغام ولكن لا مجيب».
لجأ خالد إلى أحد المتطوعين الذي أزال ثلاثة ألغام من البيت وأكد له خلوه منها بعد ذلك. ولكن الحادثة وقعت بعد أكثر من شهر أثناء لعب ولديه في «حوش الدار». يكمل: «هربنا من القصف في ريف إدلب لنسكن في هذه القرية خوفاً على أطفالنا، فلماذا يؤجر المجلس المنازل قبل الكشف عليها!».
في غرفة رحاب في المشفى نفسه يتمدد محمد (8 سنوات) ابن خالد بعد إجراء عملية جراحية لعينيه. وبجسد صغير مليء بالشظايا وذاكرة حاضرة يقول: «كان اللغم أشبه بقطرميز (عبوة زجاجية توضع فيها الأغذية). رأيناه أكثر من مرة ونسيت أن أخبر والدي عنه، حتى ضربه أخي الصغير بقدمه بينما كنا نلعب، وبعدها حصل الانفجار».
تعدل رحاب جلستها لترينا هذه المرة لوحة رسمت فيها نفسها، مع والدها ووالدتها، وهي تركض في حديقة. كانت عيناها مليئتين بالدموع عندما سألتني: «عمو، أنا رح أرجع ألعب وروح عالمدرسة، مو؟». اكتفيت بإيماءة من رأسي بالإيجاب وتأملت طفولتها التي قتلتها الحرب.
صورة لأحد أشكال الألغام (شرك خداعي) التي تركها تنظيم داعش داعش خلفه في مدينة منبج - من صفحة "سوريا بلا ألغام" على الفيسبوك