- Home
- مقالات
- رادار المدينة
تكاليف البناء المرتفعة تؤخر إعمار المنازل في الرقة
ما إن بدأت الشاحنة التي تحمل «مادة البحص» بإفراغ حمولتها أمام بوابة منزلي المُدمّر، في حارة البدو بمدينتي الرقة، حتى لاحظها أحد أفراد ما يُسمّى بقوى الأمن الداخلي التابعة لقوات سوريا الديمقراطية «قسد»، ليتدخّل على الفور ويُطالبني برُخصة إعادة إعمار منزلي المُهدّم بفعل قصفهم وقصف طائرات حلفائهم على الرقة. بلهجتها الرقاوية تشدو أم عيسى ببعض المواويل الحزينة، ثم تُعاين أضرار منزلها المُهدّم جالسة على أنقاضه، ومن ثم تلعن كلّ من أوصلها لهذا الحال.
على عجلٍ روت بعضاً مما يُثقل كاهلها، إذ تمكّنت بفضل أقاربها المُقيمين في السعودية من الحصول على مبلغ مالي يُساعدها في إعادة إعمار منزلها المُدمّر، والذي لم يبق منه سوى غرفة واحدة ومدخل المنزل، بينما تدمرت الغرف الأخرى نتيجة سقوط صاروخ من طيران التحالف عليه. وما إن بدأتْ بجلب المواد اللازمة حتى اصطدمت بـ «بلدية الشعب» وهي أحد أجهزة «قسد» في إدارة وحكم المدينة، إذ طالبها رجال البلدية برُخصة إعادة الإعمار، لتكيل لهم سيلاً من الشتائم. تقول «فوق ما دمرتم الرقة ودمرتم بيتي وبدكم مني رخصة، فعلاً فوق الموتة عصة قبر»، ليقوم رجال البلدية بمنع الشاحنة من إعادة جلب أي مواد للبناء، وتحذير السائق في حال خالف الأوامر بتعريضه لعقوبة الحجز والغرامة المالية.
وكانت أرسولا ميولر مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة قد أشارت، في تقرير لها قدمته خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي في نيسان الفائت، إلى أن «70 إلى 80 بالمئة من كل المباني داخل الرقة مُدمّرة أو مخربة، كما تم إلحاق أضرار كبيرة بالبنية التحتية بكامل المدينة، التي يعاني سكانها من انعدام الخدمات العامة الأساسية».
تُعرقل قوات قسد عبر جهاز بلدية الشعب، الذي يملك سلطات واسعة ويخضع لإدارة كردية خالصة، إعادة إعمار أهالي الرقة لمدينتهم من خلال قانون يُوجب على كلّ مدني يُحاول إعادة إعمار منزله الحصولَ على رخصة ودفع ضريبة مالية لصالح البلدية حتى يتمكن من البدء بإصلاح أو إعمار منزله. ويضع القانون عراقيل كبيرة أمام العائدين للمدينة، خاصة أنه يُجبرهم على إثبات ملكيتهم للمنازل التي يُريدون إعمارها، دون تقديرٍ لضياع تلك الأوراق أو فقدانها تحت ركام المنازل أو صعوبة استخراجها من مناطق سيطرة النظام، وعدم الاكتفاء بشهادة الشهود كإثبات للملكيات، كما يطلب حضور المالك الأصلي، بالإضافة لدفع مبلغ مالي «ما يعادل 50 دولاراً» لكل رخصة، كذلك إجبارهم على بناء قبو تحت المنزل المُراد إعماره.
تقف أم عيسى عاجزة أمام كل هذه الطلبات بعد فقدانها لعائلتها بالقصف، فلا قدرة لها على جلب وثائق تثبت ملكيتها بعد أن فقدت بطاقتها الشخصية أساساً، وفقدت معظم الأوراق والوثائق الأخرى مثل كثير من الرقاويين.
لا تمثل الرّخص وإثبات الملكية العائق الوحيد في وجه الأهالي من أجل إعمار منازلهم، بل أسعار مواد البناء المرتفعة كذلك، فشاحنة مادة البحص يبلغ سعرها نحو 50 ألف ليرة سورية ما يقابل (112دولاراً)، وكذلك طن الإسمنت بـ 42 ألف ل.س (حوالي 95دولاراً)، ويبلغ سعر طن الحديد 290 ألف ليرة ما يعادل 655) دولاراً).
معاناة أم عيسى ليست الوحيدة في المدينة المنكوبة، فـ «مريم الذياب» لها قصة مماثلة في محاولة العودة لمنزلها التي تُحاول إعمار ما تهدّم منه. تقول مريم إنها سئمت الذهاب لعناصر لجنة إعادة الإعمار من أجل انتشال «عدة جثث لا تعرف هويتهم في منزلها»، استغرق الأمر ثمانية أشهر ليقوم عناصر اللجنة بانتشال الجثث رغم تفسخها وانتشار رائحتها ورؤية الناس جميعاً لها.
تكيل مريم العديد من الاتهامات لمجلس الرقة المدني وللجنة إعادة الإعمار، التي تُدار بشكل كامل من قسد، «كلو يمشي بالرشوة والواسطة، وماحدا يقدر يعمر بيته إلا الزناكيل، ومجالسهم ولجناتهم كلها فساد وبوگ، كلهم حرامية مايساعدون حدا إلا جدام الكميرة، مشان يطلعون على أساس جدام العالم أنهم يساعدونا».
مريم إحدى النسوة اللاتي هربن من الرقة بداية الحملة العسكرية عليها من قبل التحالف الدولي وقوات قسد لريف حلب الشمالي، وبعد سيطرة الأخيرة على المدينة عادت مريم وزوجها وأطفالها منذ نحو 8 أشهر. تعاني كمئات العائلات مما وصفته بـ «الإفلاس». تقول بلهجتها المحلية «والله ياابني مفلسين، الإفلاس ذبحنا، لو مو أهل الخير ما نلاقي أكل ناكله، وفوق منها بيتنا مدمّر، ومانا عرفانيين شو نساوي»، «الزلم هين ماحدا يقدر يحكي حرف لأن يخفونهم وفوراً يتهمونهم بداعش، والله بي كثير ناس راحت وللحز ماطلعت».
العديد من المدنيين لم تلتفت لقرارات قسد، وعملوا على إعمار ما تضرّر من منازلهم بإمكانياتهم البسيطة والمحدودة، مُتهمين الإدارة الحالية للرقة بالفساد وسرقة الأموال القادمة لإعمار مدينتهم. كما يرون بأن هذا الأمر مُتعمّد، وهو ضمن سياسة قسد لمنع عودة الحياة لمدينة الرقة بسرعة كبيرة متخوفين من عودة المدنيين إليها ورفضهم لحكم قسد.
رغم الوعود التي قطعها التحالف الدولي وبعض الدول الأخرى بإعادة إعمار الرقة، إلا أن المدينة مازالت تمرّ بأسوأ أحوالها بعد سيطرة قسد والتحالف عليها، فالفقر وسوء أوضاع الناس من جهة، وعراقيل قسد من جهة أخرى، عزّز من معاناة الأهالي الذين بدؤوا وبشكل علني الخروج في مظاهرات تطالب قسد بالخروج من المدينة.