- Home
- مقالات
- رادار المدينة
تحت سلطة «الدولة الإسلامية»شهادة على ثورة القورية.. وفي نقدها (2 من 2)
جاءت «الدولة الإسلامية» من فراغ كبير حصل بعد التحرير. إذ لم تحصن الثورة ذاتها ولا مدينتها، وتركتها بلا أمن ولا أمان ولا خدمات حقيقية. تدهور التعليم. سادت ثقافة «كل من إيدو إلو» و«الأولي إلو والتالي مالو». واستبيحت الأملاك العامة، فسرقت آليات البلدية. وأصبحت السرقة والتشليح والتعفيش صفة ملازمة لأكثر الكتائب المستحدثة، رغم أن جنرالاتها كانوا من الجامعيين. وصارت تهمة التشبيح هي المدخل والحجة الكاذبة للاعتداء على أمن الناس وكراماتهم وأموالهم. قصّر الجيش الحر في التدخل الفعلي، بوصفه قوة تنفيذية قادرة على المساهمة في ضبط الأمن، وانصرف إلى قضاياه الخاصة ومصالحه الفردية، وشعر الكثير من أفراده أن سورية حُررت بتحرير القورية وما حولها. وإثر هذا الوضع المزري أخذت الحاضنة الاجتماعية تتخلى عن ثوار لم يردوا جميلها، وأصبحت الناس تترجى مخلصاً ما. وعندما وصلت داعش وسيطرت «قبلتها» الناس كيدياً بينما كانت ترفضها سياسياً، ولم تكن الدولة الإسلامية هي القصد. ويبدو أن «دولة الخلافة» القادمة، والتي بدأت تحقق انتصارات إعلامية ومعنوية ونفسية، نجحت من خلالها في تكسير معنويات الجيش الحر ذي البنية الهشة والفاسدة؛ يبدو أن قدراتها لم تكن ذاتية، بقدر ما كانت جهداً مخابراتياً ومالياً وإعلامياً يليق بدول لا بتنظيم إرهابي. نعم، إنها الدول الإقليمية ومخابرات دول أبعد من إقليمية دعمت وسهلت زرع القاعدة في قلب الثورة السورية لتفجيرها من الداخل، وهذا ما حصل. وبالرغم من تماسك العقل التدبيري لداعش وقوته في بسط نفوذه وإدارة الصراعات والتناقضات بطريقة سياسية وأمنية محنكة ومحترفة؛ إلا أن مشروعها لم يكن خافياً إلا على الجهلة أو المهزومين الذين فاوضوها لتسليم المدينة. تمثل وضوح سياسة داعش علانية بسياسة «سلموا أسلحتكم أولاً». وماذا بعد نزع السلاح؟ (ألم تحضروا الزير يا جنرالات الحر وحكماء القورية، من يبِع فرسه لا يقاتل بعنزة). وهنا أقول لقد أخطأ جنرالات الحر في القورية ومن معهم، وأخطأت معها كل القرى التي سلمت لداعش. ونتائج اليوم تقول هراء لكل من سلم وحكَّم بالتسليم. وما كانت الخسائر ممكنة الحصول لو أن القورية وباقي القرى قاومت مثلما حصل في الشحيل والشعيطات، مع علمي أن هناك مواويل أخرى لتلك المقاومة، ولكن هذه هي السياسة تتطلب البحث عن أقل الخسائر. ولكن للأسف حصل العكس، مما جعل «الدولة الإسلامية» تتمكن من الجميع وتقدمهم قرابين للخليفة.
ومع سيطرة داعش على القورية وضعت في سلم أولوياتها ترتيب الخطر الذي يمكن أن يهددها، فكانت:
- جبهة النصرة.
- الجيش الحر.
- الإعلاميون.
- مخاتير وفعاليات اجتماعية.
- معارضون ونشطاء.
واستطاعت داعش أن تحقق جميع أهدافها المذكورة بأن قضت على جبهة النصرة، وحلّت الجيش الحر فمنهم من
بايع وباع ومنهم من هرب. أما الإعلاميون فمن هرب هرب ومن بقي وظفته لحسابها طوعاً أو كرهاً، ولكن ليس هناك بطل باق في الداخل يستطيع أن يقول لا لخليفة المسلمين. أما الوجهاء -كان الله في عونهم- فمن محنة إلى محنة، إذ المطلوب منهم مساعدة «الدولة الإسلامية» ودعمها وتأييد سياستها. فيما لم يكن أمام النشطاء والمعارضين سوى الهزيمة.
وعندما انتهت داعش من ترتيب أولوياتها بنجاح، انتقلت مباشرة إلى ممارسة سياسية عنفية ومتوحشة ضد القورية التي لم يشفع لها أن صناديد الحر سلموها للتنظيم، بل مورست أبشع أنواع الإذلال والإهانات في حق أهاليها، ولم يُستثن شيخ ولا طفل ولا امرأة. وتدرج عنفهم من الأعلى إلى الأدنى؛ فبدأوا بذبح الأبناء أمام آبائهم (أبو الحارث /أحمد السطم/ ومن قتلوهم ولم يسلموا جثثهم)، ثم جعلوها مسلخاً لذبح شباب من قرى أخرى، ثم الاعتقال، ثم الدورات الشرعية الإجبارية، ثم البث الإعلامي للأطفال في ساحة المدينة وعرض إصداراتهم في القتل والصلب، ثم تجنيد الجهلة والصغار وإرسالهم إلى جبهات القتال في سوريا والعراق، ومعظمهم قتل هناك. كما عمدت داعش إلى إغلاق المدارس وأهانت المعلمين، وضيقت على الكادر الطبي واستولت على المستوصف والمشفى الميداني وأوقفت مساعدات الدواء والأجهزة الطبية ورواتب الكادر، واستهدفت شيوخ الدين المختلفين معها وأهانتهم. كما وضعت كل شخص ذي أهمية -مهما كبرت أو صغرت- تحت المجهر وفي دائرة الاستهداف الذي حصل بقتل من قد يشكلون خطراً عليها يوماً ما أو اعتقالهم أو تهجيرهم.
إن القورية، مثلها مثل جاراتها ومحيطها في العشارة والميادين ومحكان والطيانة والشعيطات والشحيل والبوليل والبوكمال وريفها ودير الزور، تئن وتنوء بحملٍ أبعاده متعددة؛ داعش نفسها حيث القتل والتهجير، والنظام وطيرانه ومجازره، والروس والإيرانيون، والتحالف الذي معظمه من العرب. كلهم يقصفون المدينة ويدمرونها ويجوعون أهلها ويهجرونهم، على مرأى من العرب والمسلمين والعالم برمته، ولا أحد يحرك ساكناً.
من أفراد كتيبة الشهيد سراي الساير
خاتمة
ما حدث في القورية خاصة، وفي دير الزور عامة، ليس إلا جزاءً عن سوء ما فعلناه وما كنا عليه. والحقيقة أننا جميعا لم نتحمل مسؤولياتنا بجدارة وكما يجب، وكل مسؤول بما لديه من حجم. المسؤولية الأكبر على جنرالات الجيش الحر، أمراء النفط والتعفيش. المسؤولية الأكبر على من بيدهم السلاح الذين سلموه لداعش واستسلموا. «السلاح بيد العفن يجرح»، وما أكبر جرحك دير الزور. ورحمة الله على الرجال الذي قدموا دماءهم الطاهرة من أجل حرية وكرامة مدينتهم. ولكن المسؤولية لا تنحصر في العسكر وحدهم، بل تطال الجميع دون استثناء؛ من مشايخ سكتوا عن الحق (ليس كلهم سكتوا بل جُلهم أُسكتوا)، ومعارضين قدامى عاشوا مع أهل الكهف وعندما خرجوا منه أعمتهم الشمس، إلى المثقفين الذين لم يسمع لهم صوت عالٍ وفروا إلى المنافي. أما زعامات العشائر فلم تكن يوماً إلا مع الظالمين والمستبدين، هكذا بنية عقولهم وتاريخها، ومن تربى في مدرسة الاستبداد الأسدي كان قابلاً للاستبداد الداعشي، بالرغم من الفرق.
أما داعش
هذا الثالوث المخابراتي والعَقَدي والمافيوي، فقد أصبح واضحا أنه ليس علة محلية ضيقة، بل إن خطره بادٍ بتخريب الأوطان والإنسان أينما حل وأينما وُظَّف. وداعش إن زالت قريباً فإن آثارها لن تزول، ومهمتنا كسوريين العمل على إبطال مسبباتها، وفي مقدمة ذلك الخلاص من مُعلم الإرهاب الأول، الأسد وعصابته وجنرالاته، ثم الدفع باتجاه حركة تنوير ثقافي عام وإصلاح ديني خاص، تكون قادرة على استيعاب الحداثة من جهة، وعلى تفكيك ونقد الخطاب الديني الذي تتكئ عليه الحركات المتطرفة من جهة ثانية. ولا يكفينا دفع التهمة بالقول «داعش ليست منا». فداعش منا وفينا، من لحمنا ومن دمنا، من ماضينا وحاضرنا، وفي جامعنا وجامعاتنا، في القبيلة والمدرسة والمخفر. وما نظام الأسد إلا قمة الدعشنة. داعش تلك الثقافة /الفتنة النائمة رحم الله من أحياها (الربيع العربي)، بالرغم من آثاره التدميرية الهائلة، لكن ثمة احتمال واحتمال بإمكانية النهوض اعتماداً على العقل المؤسَّس على العلم والانفتاح على العالم وبناء ركائز أولى لقوتنا الذاتية.
panoramio