- Home
- مقالات
- رادار المدينة
بين انتظار عبور الحدود ضعف الإمكانيات الطبية في إدلببعد أن أكد الأطباء الأتراك آمال شفائه.. المكتب الصحي في إدلب يمنع طفلاً من استكمال العلاج
«لم يبك عند ولادته كغيره من الأطفال». صفعته القابلة مراراً إلّا أنه لم يستجب، لتبدأ بعدها رحلة شقائه بين ضعف الإمكانيات في مشافي إدلب، والبيروقراطية في المكتب الطبي للعبور إلى تركيا بحثاً عن علاج.
محمود رشيد عبد الرحمن الطفل الذي ولد في مدينة الأتارب، على وقع القتال بين داعش والفصائل المسلحة، ليلة 25/1/2014 لم يسعفه الحظ بالوصول إلى أحد المشافي، بعد ولادة متعسرة على يد القابلة في منزله. «كان القتال شديداً، والمدينة تتعرض للقصف. لم نستطع الوصول إلى المشفى» يقول والده. مرّ الوقت عصيباً. بعد محاولات عدة من القابلة سُمع صوت الطفل، «كان صراخه قد أراحنا، ظننا أن الأمر انتهى».
سبعة شهور مرّت على ولادة الطفل، بدأت خلالها علائم المرض تظهر على محمود الذي كان يرفض الطعام إلا ما ندر، وبدت وظائفه الحيوية ضعيفة. الأطباء في مشفى باب الهوى قالوا إن الطفل ولد ضريراً. ثلاث مرات أكد الأطباء لوالديه ذلك، إحداها كانت من لجنة قيل إنها لأطباء جاؤوا من خارج البلاد.
في المشافي التركية
لم ييأس والد الطفل في البحث عن علاج لطفله الذي بدأت حالته بالسوء، وترافقت مع نوبات من الاختلاج. الطبيب عبد القادر سيد عيسى في مشفى باب الهوى قال «إن الطفل لم يكن ضريراً، هو يعاني من مشاكل دماغية سببها نقص الأكسجة حين ولادته». كان على والد الطفل الاختيار بين العلاج في مناطق النظام أو الدخول إلى تركيا، كما أخبره الطبيب. فمشافي إدلب لا تمتلك الأدوات اللازمة لعلاجه، ليس هناك أجهزة تصوير وتخطيط دماغي ولا مخابر تحليل لمثل حالته. آثر رشيد الدخول إلى تركيا، فهو «مطلوب من قوات الأسد وذهابه إلى هناك سيؤدي إلى اعتقاله، بالإضافة إلى الكلفة المادية المرتفعة لمثل هذه الإجراءات على عامل يكسب قوت يومه بشق الأنفس».
لم يكن رشيد يملك جواز سفر، ولم يكن هناك مكتب طبي في تلك الآونة، فحمل طفله عبر طرق التهريب للدخول إلى الأراضي التركية عبر رحلة بين الطرق الوعرة والجبال. عند وصوله قام بالتسجيل في مكتب الأمم المتحدة، وتم إدخاله إلى مشفى في أنطاكيه ليتم تحويله بعدها إلى مشفى أضنه.
شهر ونصف الشهر أمضى محمود برفقة والده في مشفى أضنه، قام الأطباء بإجراء الفحوصات اللازمة للطفل، لتبدأ رحلة العلاج الجديدة التي ترافقت مع الكثير من الصور والتحاليل والخزع. لتبدأ حالة الطفل بالتحسن وليعود إليه بصره. وأعطي على إثرها الأدوية اللازمة، وورقة تسمح له بالدخول إلى تركيا في مواعيد علاجه.
تقرير طبي يصف حالة الطفل ويثبت أنه يتلقى العلاج في مشفى جامعة تشوكوروفا في أضنة
التقرير الطبي الذي يحمله محمود يؤكد على «وجود خلايا دماغية ميته»، الأطباء يحاولون إيقاف تماوت هذه الخلايا عند حد معين، تقول والدة الطفل «بديت حالتو تتحسن. صار يشوف، وبعد فترة رجع أكلو طبيعي وصار يوقف ويمشي، صحيح كان متأخر عن الأطفال بعمرو بس صار يمشي، ولما صار عمرو سنتين ونص صار يقول ماما وبابا، وأهم شي خفت نوبات الاختلاج وخف الألم».
الطريق إلى تركيا كان يسيراً في هذه المرحلة من العلاج، «بمجرد أن نعطيهم أوراق الدور كانوا يدخلونا». وفي نهاية الشهر الثالث من عام 2017، كان على محمود أن يراجع المشفى في أضنه لمتابعة العلاج ومراجعة طبيب النطق، بحسب الورقة التي يحملها، إلّا أنه لم يستطع الدخول هذه المرة.
سبعة شهور على باب المكتب الصحي في معبر باب الهوى
في الشهر الرابع من عام 2017 حمل رشيد طفله للدخول إلى تركيا عبر معبر باب الهوى. هذه المرة لم تنفع ورقة المراجعة التركية التي يحملها في إدخاله. فقد قام المكتب الصحي في المعبر بتأجيل دخوله حتى الشهر السادس. قدّم الرجل أوراقه التي يحملها في الشهر السادس ليتم تأجيله حتى الشهر الثامن، ثم حتى تاريخ 11/12/2017، ليأتيه الرد هذه المرة أنه لن يستطيع الدخول بحجة «أن الجانب التركي هو من أوقف دخول مثل هذه الحالات». يقول والد الطفل إنه تواصل مع مكتب الأمم المتحدة الذي سجل فيه حالة طفله، وجاء الرد بأن لا علاقة للجانب التركي بذلك، المشكلة في الجانب السوري من المعبر !
«كل مرة منروح منحط مصاري وبترك شغلي وبيرجعوني، ما بعرف ليش عبيعذبوني». خلال رحلات رشيد المكوكية كانت الأدوية التي حملها معه من تركيا لطفله قد نفدت، فاضطر إلى شراء شبيه وطني. لكن حالة محمود بدأت بالتراجع، فقد الطفل النطق وبدأ يعاني من ضمور في قدمه اليسرى، وزادت نوبات الاختلاج التي ترافقه، ما اضطر والده إلى مراجعة عدد من الأطباء في المنطقة. «ست شرابات وأربع أنواع حب» كان على الطفل تناولها يومياً، بعد أن كان يعالج بشراب واحد وعلبة حبوب واحدة.
يقول والد الطفل «إن كثرة الأدوية سببت للطفل جرثومة في الدم، استمرت أربعة أشهر من العلاج للانتهاء منها». وفي كل مرة كان يراجع فيها الأطباء كانوا يطلبون منه «خزعة»، ولكن المشافي في المنطقة كانت ترفض أن تقوم بها، «كل مشفى كان يحولني على مشفى، مشفى أطمه حولني على باب الهوى لأعمل صورة طبقي للطفل، ومشفى باب الهوى رجعني على أطمه». وعند التواصل مع أحد المخابر الخاصة في مدينة حلب، تبين أن كلفة إجراء «الخزعة وتحليلها بالإضافة إلى صورة طبقي محوري تبلغ 150000 ليرة».
يقول الطبيب أحمد السعيد (طبيب أطفال) بعد اطلاعه على الأوراق «إن مثل هذه التحاليل لا يمكن إجراؤها في المنطقة، هي حصراً في مناطق النظام أو خارج البلاد». كما يرى الطبيب «إن الكثير من الأدوية المنتشرة في الأسواق السورية خلال الفترة الماضية منخفضة الفعالية، وهذا ربما أثر في تراجع حالة الطفل الذي يجب أن يخضع لفحوصات دورية».
المكتب الطبي في إدلب «عود على بدء»
بعد نقل الملفات الطبية من مكتب التنسيق الطبي في معبر باب الهوى، إلى لجنة تحويل المرضى في مديرية صحة إدلب التابعة لحكومة الإنقاذ في 12/11/2017، وجد رشيد أملاً جديداً في معاودة الكرة للحصول على إذن بإدخال طفله لمتابعة العلاج في تركيا. ولكن طبيب الأطفال، على حد قول رشيد، أخبره «طفلك لو بتاخدو على ألمانيا مالو علاج». وحين شرح له حالة الطفل وكيفية استقرار حالته وتحسنها بعد العلاج، رفض إدخاله وطلب منه «سحب التحاليل وإرسالها إلى حماه !»
تفاقمت حالة الطفل الذي بات يعاني من نوبات ألم حادة، أدت في كثير من الأحيان إلى «ضرب رأسه بالجدار»، بالإضافة إلى اختلاجات لم يعد الدواء يقوى على إيقافها، ما دفع رشيد إلى استدانة مبلغ 50 ألف ليرة سورية ثمن صورة رنين مغناطيسي. حصلت عين المدينة على نسخة من التقرير المرافق للصورة الذي أكد «على سلامة النسيج الدماغي والعصب البصري والعصبان السمعيان»، إلّا أن طبيب العصبية حسان محمد جود «الطبيب الأخصائي في مشفى سرمدا» قال، بحسب والد الطفل، بعد أن قرأ الصورة وأهمل التقرير «إن الطفل يعاني من مشاكل دماغية وضمور في عضلات الجانب الأيسر، وسيفقد بصره إن بقي على هذه الحالة». وقام الطبيب بكتابة دواء لم تستطع العائلة الحصول عليه، فهو غير موجود في سوريا وعليهم شراؤه من إحدى الدول الأوربية. وقال والد الطفل «لما سألنا عن الدوا كان سعرو غالي كتير، والطبيب أخبرنا أنو هاد الدوا تخمين، ولازم نعمل تحاليل لنعرف إذا الطفل استجاب للدوا أو لأ، وإلا الطفل رح يخسر خلايا كتيرة من الدماغ لأن السائل الدماغي عبيجف».
طبيب الأطفال في المكتب الصحي رفض تقرير الطبيب حسان، وأخبر والد الطفل بأن «هذه ورقة وليس تقرير». وعند تواصلنا مع المكتب الطبي، جاءنا الرد من المهندس محمد ياسر السعد مسؤول المكتب الطبي للدخول إلى تركيا «إن الطفل محمود يعاني من شلل دماغي ليس له علاج في تركيا، وإن دخوله سيحرم مرضى آخرين من الدخول للعلاج». وأكد السعد على أن معظم الأمراض التي لا يتوافر لها علاج في المناطق التابعة للمكتب الصحي يحق لها الدخول إلى تركيا؛ إلا أن الجانب التركي حدد عدد المرضى يومياً بعشرين حالة مرضية مع مرافقيهم، وهذا ما يجعل العدد ينقص عن عشرين في كثير من الأيام، ناهيك عن الأمراض السرطانية والقلبية والحالات الساخنة التي تُعطى الأولوية في مثل هذه الحالات، بعد فحص الأوراق والتقارير من قبل لجنة مختصة من الأطباء.
وعند سؤالنا والد الطفل، قال «مين قلون أنو ابني معو شلل دماغي ! والتقارير والدور التركي الي معي من مشافي تركيا من وين جبتون إذا ما في علاج !»
في الزيارة الأخيرة التي أجراها رشيد للمكتب الطبي منذ أيام، تم تحويله إلى أربعة مشافي لبيان حالته وتلقى وعداً بإدخاله إلى تركيا لإكمال علاج طفله؟
بينما ينتظر رشيد السماح له بالدخول إلى تركيا، يقف حائراً بين أن يوقف الدواء الذي طلب منه الطبيب أحمد صالح الزعبي إيقافه، واستخدام الأدوية الجديدة التي كتبها لطفله، أو أن يتابع في دوائه الذي حذره الأطباء في مشفى أضنه من تركه. يريد الرجل أن «يعمل صفحة على فيس بوك» ليحكي قصته، وقصة مئات المرضى الذين يذوون أمام أعين عائلاتهم دون مجيب.