- Home
- مقالات
- رادار المدينة
بعد التدمير.. خطر آخر قد يمحو التراث المعماريّ في مدينة دير الزور
منذ صيف العام 2012 وحتى خريف العام 2017، تعرّضت الأبنية والمواقع التراثية في مدينة دير الزور لتدمير هائل، ألحقته بها أشكال القصف المختلفة بالطائرات والمدفعية الثقيلة والصواريخ والدبابات. تلك ليست الجريمة الأولى لنظام البعث بحق تاريخ دير الزور وهويّتها العمرانية، بل سبقتها جريمة أفظع في العام 1968، وهي إزالة «الدير العتيق» من الخارطة بتجريف البلدة القديمة كاملة وإنشاء أبنية بيتونية قبيحة مكانها.
مبنى السرايا القديم الذي شيّده العثمانيون في العام 1877 كأول مظهر من مظاهر اهتمامهم السياسي بدير الزور، وكتعبير عن عزمهم تحويل البلدة إلى مدينة، قبل أن تصبح واحدة من ثلاث متصرفيات ممتازة إلى جانب القدس وجبل لبنان، دُمّر تدميراً كاملاً وسُوّيت حجارته بالأرض. وكذلك حال البوابة العثمانية (شُيدت: 1889) التي تفصله عن سوق التجار التراثي الذي دُمّرت بعض أجزائه بالكامل. سوق الخشابين المُنشأ في التاريخ ذاته سُويّ بالأرض كذلك، وصار أثراً بعد عين. الأسواق «المقبية» الأخرى، والمآذن والقباب في جوامع السرايا والعمري والتكيتين دُمّرت بنسب مختلفة، أوتخلخل استقرارها الإنشائي بما يُعرّضها لانهيار في أي لحظة. خان الصبّاغ (المملوك لعائلة كنامة)، مطعم القاهرة الشتوي، كنيسة اللاتين (الكبوشية)، والعديد من الأبنية التراثية غيرها، تعرّضت كذلك لنسب تدمير بين (60-90) %، وكثير من المنازل السكنية المُشيّدة في أواخر العهد العثماني وحتى أول عهد الانتداب الفرنسي، التي تُعدّ الأمثلة الباقية عن عمارة البيوت التراثية في مدينة دير الزور، دُمّرت تدميراً كاملاً وصارت أكوام حجارة متشظية.
حتى الآن لم يصدر تقرير علمي يُوثّق الحالة الراهنة للمباني الأثرية والتراثية، ويرصد حجم الأضرار التي تعرضت لها. ويصعب على جهات أكاديمية أو منظمات دولية تُعنى بالحفاظ على التراث الثقافي المادي، ولاسيما في مرحلة ما بعد الحروب، إصدار هكذا تقرير، طالما ظلّت المدينة أسيرة السيطرة الأمنية العسكرية للنظام على المدينة. ولا يُنتظر منه وهو الطرف المسؤول عن هذه الجريمة أن يسمح لأحد بتوثيقها، ولا يُنتظر بطبيعة الحال من مديرية آثاره، التي تعاني من قصور مزمن مُتعدد الأوجه، أن تفعل هذا وهي المُتّهمة ومن قبل الثورة بالتقصير والعبث بتراث دير الزور وآثارها.
أبنية وصروح ومعالم تاريخية كثيرة في بلدان مختلفة دمّرتها الحروب وأُعيد إعمارها ثانية كما كانت قبل التدمير، لا أمل بذلك تحت سلطة الأسد في دير الزور وغيرها من المدن السورية التي نالت نصيبها هي الأخرى من همجيته، وكل ما يُمكن فعله اليوم هو توثيق التراث المعماري للمدينة، وفق الشروط العلمية وبالأساليب المعروفة للمختصين في هذا الشأن. لكنْ وإلى جانب العوائق التي تفرضها سيطرة النظام على دير الزور، تبرز عوائق أخرى في مشروع التوثيق المعماري، أهمها بلا شك افتقار كثير من المباني والمعالم التراثية لمخططات معمارية أصلية، بما فيها تلك المُسجّلة لدى مديرية الآثار، حيث كانت المديرية تكتفي بتسجيل المبنى ضمن قائمة المباني الأثرية دون أن ترفع المُخططات المعمارية المطلوبة؛ في هذه الحالة يمكن الرجوع إلى مخططات المساحة المشغولة في عهد الانتداب الفرنسي (الكاداستر)، وهي لا تفيد إلا بإبراز المساقط الأفقية من دون المساقط الأخرى وباقي التفاصيل المعمارية اللازمة للترميم، أو إعادة تشييد المبنى كما كان في السابق.
فضلاً عن أهميته الجمالية، يُمثّل التراث الثقافي المادي المُتجسّد بالعمارة والعمران القديم للمدن قيمة حضارية، وإرثاً حيّاً وفاعلاً في جوانب اجتماعية وسياسية وأخلاقية من حياة الشعوب. وإن تدمير هذا الإرث قصداً وعمداً من قبل قوات الأسد، ودون ضرورة أو أهداف أو منافع عسكرية فرضتها مجريات المعارك في معظم الحالات، يُعبّر بوضوح شديد عن استهتاره بتاريخ مدينة دير الزور، ويُؤكد رغبته بمحو شخصيتها وذاكرتها الحضارية ثأراً منها على انتفاضتها ضده، وعقاباً دائماً يُريده النظام رادعاً للأجيال اللاحقة، في سلوك عقابي وحشي اعتادت عليه المدن السورية منذ ثمانينات القرن الماضي.
بلا شك، سينشط في الأشهر القادمة تُجار الحرب والمُقاولون المحلّيون المرتبطون بالنظام للفوز –محاصصة مع ضباط مخابرات ومتنفذين آخرين- بعقود وعطاءات من «كعكة إعادة الإعمار»، وتأتي أعمال التجريف ورفع الرّكام العشوائية القائمة اليوم في مدينة دير الزور مُمهدة لهذه الأنشطة، كما تُمهد لها على نحو آخر مراسيم الأسد الأخيرة.