- Home
- مقالات
- رادار المدينة
بسبب الغلاء.. التسقية في رمضان دمشق تنتقل من جانب السفرة إلى وسطها
مع سنوات الغلاء التي شهدتها المناطق السورية المختلفة، تقلصت العديد من تقاليد وطقوس الطعام في رمضان، وأجريت تعديلات على ركائزه الأساسية لتتناسب مع حالة العوز التي تضرب أصحاب الدخل المحدود في دمشق، وتحولت أطباق لطالما اعتبرت جانبية من صنف المقبلات، إلى أطباق رئيسية لا يستطيع الكثيرون من سكان العاصمة المحافظة على حضورها الدائم ضمن موائدهم، حتى مع وضعها الجديد كوجبة رئيسية. هذا ما حدث لطبق "التسقية" الشهير.
"غدت هذه الأطباق نوعاً من الترف" تردد لطيفة هذه العبارة، وهي تتابع مقطعاً للشيف عمر أحد صناع المحتوى الدمشقيين على يوتيوب الذين يعرضون أطباقاً شامية. يضع الشيف مرقة الحمص الساخنة على الخبز المفتت ثم يغمرها بطبقة من "البدوة" وهي خليط مكون من اللبن والطحينة والثوم. أما المشهد الختامي الذي "يحبس الأنفاس" فهو "طشة" السمن البلدي بالصنوبر على سطح طبق الفتة الشامية المعروف بالتسقية.
بالنسبة إلى لطيفة المقيمة بدمشق -زوجة موظف حكومي لا يتجاوز راتبه الشهري 150 ألف ليرة- لم يعد بإمكانها تطبيق هذه الوصفة كل يوم، كما جرت عادة الدمشقيين على مائدة الإفطار في رمضان، وذلك بسبب غلاء مكوناتها الرئيسية، ما يجعل اعتمادها على التسقية كطبق فرعي (مقبلات) خارج ميزان القدرة الشرائية للشريحة الأوسع من سكان العاصمة. والحال يحضر طبق التسقية على المائدة بصفته الوجبة الرئيسية، وتكون المخللات هي المقبلات المصاحبة لهذه الوجبة، ما يشير إلى تغير جذري في العادات الاستهلاكية للسكان، بدءاً من غياب عنصر المقبلات على المائدة، ووصولاً إلى تقليص باقي المكونات المرافقة أو التي تؤخذ بعد الانتهاء من وجبة الإفطار مثل المشروبات الرمضانية والحلويات والفاكهة.
يمكن النظر اليوم في دمشق إلى طبق الفتة الشامية (التسقية) على أنه مؤشر لقياس معدلات التضخم في دمشق، كون هذا الطبق يعد أبرز مكونات المائدة الرمضانية الدمشقية، ما يعني أن غيابه أو تقليص حضوره التقليدي يؤشر إلى تدني غير مسبوق في المستوى المعيشي للسكان.
يحتاج تحضير طبق تسقية لأسرة مكونة من 5 أشخاص، إلى ربع كيلو حمص مسلوق، نصف كيلو لبن، وخبز و50 غرام طحينة ومثلها سمنة. ما يعني أن الأسرة مضطرة لدفع مبلغ نهائي يقارب 4400 ليرة لطبق التسقية وحده. وإذا تم اعتماده كطبق فرعي يومي يتخطى المبلغ الشهري لهذا الطبق وحده 130 ألفاً، أي أكثر من الحد الأدنى للأجور المحدد في دمشق ب94 ألف ليرة.
ويمكن قياس مستوى الأسعار وتفاوتها مع العام 2021 اعتماداً على نفس المؤشر. في العام الماضي وصل سعر كيلو الحمص الحب إلى 4700 ليرة، بينما ارتفع إلى 6000 ليرة في العام الحالي. أما كيلو السمن النباتي فقفز سعره من 7 آلاف إلى 15 ألف ليرة، و كيلو اللبن ارتفع من 2100 ليرة إلى 3 آلاف، وكيلو الطحينة من 9 آلاف إلى 12 ألف ليرة.
وبحسبة بسيطة: كانت الأسرة المكونة من 5 أشخاص بحاجة إلى مبلغ 3 آلاف ليرة تقريباً لتحضير طبق التسقية، وإلى ما يعادل 90 ألف ليرة إذا تم اعتماد الطبق كوجبة يومية فرعية على المائدة، أمام ذات الرقم من الحد الأدنى للأجور. على أن نسبة الارتفاع التي قاربت ال50%، لا يمكن تعميمها بالضرورة على جميع المواد الغذائية الأساسية نظراً لتفاوت نسبة الارتفاع لهذه المواد وقد وصلت في بعض منها إلى مئة بالمئة.
وفي هذا الصدد، يشير سكان من العاصمة إلى فوضى عارمة طاولت أسعار السلع مع حلول شهر رمضان، فقد ارتفعت معظم المواد التموينية، إلى جانب الخضار والفاكهة واللحوم الحمراء ولحم الدجاج. يؤكد أبو أحمد وهو عامل في مطبعة براتب أسبوعي لا يتخطى ال40 ألف ليرة ويقيم في حي المهاجرين، لعين المدينة بأن أسرته تعتمد على طبق واحد على المائدة، خلافاً لما هو معتاد سابقاً. "طبخة واحدة كل يوم أو يومين.. بطاطا مقلية مع تبولة أو فتوش، أو لحمة دجاج بالصينية دون مقبلات أو وجبات فرعية.. وهكذا".
أما حياة وهي سيدة تقيم في الكسوة بريف دمشق، وتعيل أسرتها من خلال العمل كخياطة في منزلها، فتوضح لعين المدينة حالة التقشف التي تعتمدها أسرتها: "طبخة واحدة لكل يومين. دون مقبلات أو مشروبات رمضانية كالتمر هندي أو العرقسوس. الحلويات غائبة تماماً، اللحوم الحمراء غائبة أيضاً، والدجاج قطع رخيصة فقط كالقوانص والرقبة".
وفيما يفضل بعض الدمشقيين ميسوري الحال تحضير طبق التسقية "على أصوله"، يلجأ معظم السكان إلى تخفيف حدة الكلفة الباهظة للطبق من خلال تقليص الكميات التي تشكل "البدوة"، والاستعاضة عن شراء الحمص المسلوق الجاهز بنقعه بالماء لليلة كاملة ثم سلقه في المنزل.
وتوضح لطيفة الطريقة المتبعة بين معارفها لتقليص كلفة طبق التسقية ب"زيادة مقدار الخبز مع مرقة الحمص، واستبدال السمن الحيواني أو النباتي ذي النوعية الممتازة بأرخص أنواع السمن النباتي المتوفر في السوق. الطحينة أشتريها بالكيلو كونها أرخص من الطحينة المعلبة".
أما حياة فتلجأ لشراء كمية من الحمص المطحون "المسبحة"، كبديل عن جميع مكونات البدوة، عدا اللبن الذي غالباً ما تكتفي منه بملعقتين أو ثلاث، وهي كمية تعادل ثلث ما يحتاجه الطبق في الأحوال الطبيعية.
فيما يعتبر أبو أحمد أن حفنة الصنوبر التي تشكل -في العادة- أحد مكونات الطبق "ترفا حتى بالنسبة إلى الميسورين".