- Home
- مقالات
- رادار المدينة
بدايات الحراك الثوري في ديرالزور.. عندما سمعت صوتي لأول مرة
كان لهذه المادة أن تكون رصداً سريعاً لبداية التظاهر في ديرالزور، لكن تأمُّل تلك المرحلة وما عنته أو أضافته لي، جعل الرصد في العام يتداخل مع استذكار الخاص، فكان الصوت إحدى الثيمات التي جمعت بينهما. قبل العام ٢٠١١ لم يكن صوتي هو ما أسمعه -آخذاً بالاعتبار المسافة التي يصعب على المرء أخذها عندما يعاين كل ما يصدر عنه؛ كان الصوت هو صدى "الأمة العربية الواحدة"، "صوت الجماهير الهادرة"، أما صوتي كإنسان فرد، فكان يجب أن أتخذ قرار المشاركة في الثورة كي أسمعه.
وسط الفئات التي أخذت على عاتقها اختراق حاجز الصمت، كانت تعاد بلورة الموجبات التي لا يمكن إلا أن يثار عليها، وهكذا لم تختلف دواعي الثورة كفعل احتجاجي في ديرالزور عن غيرها في المحافظات السورية الأخرى، والمتعلقة بمصادرة حقوق السوريين السياسية والاقتصادية، واستبداد السلطة واحتكار مؤسسات الدولة لصالح العائلة الحاكمة، بالإضافة إلى رأسمالية الأفراد/المسؤولين في بلد يتبنى قادته شعارات الاشتراكية إلا أن لديرالزور خصوصية تتشارك فيها مع المحافظات الشرقية الأخرى، على اعتبارها خزان سوريا الاقتصادي، الذي تتحكم فيه عائلة الأسد، وبذات الوقت هي مجرد "محافظات نامية" في حساباته، لا يُخصص لها من الميزانية الحكومية إلا النزر اليسير في مختلف القطاعات التعليمية والخدمية والصحية.
ربما يُنظر إلى بعض تلك الأمور بعين الاختزال إلى المظلومية، وإحالتها إلى شعور متعاظم يتبناه السوريون في استسلام لراحة إلحاق التعقيدات بأسباب مبسطة، لكن من المجحف بحق الأفكار أن تحاكم بأثر رجعي، ثم أليس من الممكن ربط شعور المظلومية بالوعي بالظلم الذي يُنتج الثورات؟ لا تدعي هذه المادة الإجابة على أسئلة من اختصاص الفلسفة السياسية، لكنها تسجل هنا كسب الديريين لأكبر تجمهر محلي محبب وخاص بهم في الملعب البلدي للخروج في أول الاحتجاجات، وكانت في جمعة الكرامة، والمتزامنة مع مظاهرة مدينة درعا الأولى في الثامن عشر من آذار من العام 2011.
جاءت المظاهرة الأولى في مباراة نادي الفتوة الديري مع نادي تشرين، في منظر مهيب يختلف عن صورة شغب جمهور النادي المتكرر، امتدت إلى الأحياء المجاورة للملعب البلدي، وتبعتها حملات مداهمة واعتقالات من قبل الفروع الأمنية. في تلك الأثناء كان صوتي يعيش مخاضه الخاص، على وقع الأخبار من مصر وتونس وليبيا، كان قد نما في حنجرتي التي ضاقت به، منتظراً اللحظة التي يرى النور بها بفارغ الصبر.
في ذلك الوقت بدأت عمليات التنسيق بين الحلقات الضيقة للشباب الثائر، لتخرج في الجمعة التالية (جمعة العزة) ثلاث مظاهرات في كل من مساجد عثمان والصفا والتوبة في أحياء المطار القديم والعمال والجورة، أُجهضت مظاهرتا الصفا والتوبة في مكانهما من قبل الشبيحة، وتابعت المظاهرة الخارجة من مسجد عثمان حتى وصلت شارع التكايا، الفاصل بين حيَّي الحميدية والشيخ ياسين، قبل تَمكّن الأمن من تطويقها.
في الأسبوع الثالث خرجت مظاهرة جامع المفتي في جمعة الشهداء في الأول من نيسان من ذات العام، وكان قد قمعها الشبيحة بالأسلحة البيضاء.
كنت من بين الذين تعرضوا للقمع بعد أن استكشفوا أصواتهم ورأوا مفاعيلها في الشارع. حقاً كان اليوم الموعود لولادة صوتي الجديد، أحسست حينها وللمرة الأولى أن لصوتي قيمة، قد تكون هذه القيمة تساوي الموت، ولكنها بذات الوقت هي الدافع للحياة.
توسعت بعد ذلك رقعة المظاهرات في عدة أحياء في المدينة، بالتزامن مع تحركات أخرى في العديد من مدن وبلدات محافظة ديرالزور مثل موحسن والقورية والبوكمال والميادين، جوبهت جميعها بالقبضة الأمنية التي تصاعدت وتيرتها مع ازدياد نبض الشارع، أو ارتفاع صوته، وبقيت التحركات في المدينة تقتصر على محيط المساجد في هذه الأحياء، والتي كان حي المطار القديم أشدها تأثيراً، إلى أن تمكنت جموع المتظاهرين الخارجة من معظم مساجد ديرالزور أخيراً من فك القيد الأمني والوصول إلى الساحة العامة للمدينة في الجمعة العظيمة، الموافقة للثاني والعشرين من شهر نيسان، وتمكن المتظاهرون حينها من إسقاط "تمثال الباسل" في الساحة.
حتى ذلك الوقت، كان من المعتاد أن يُفرض على السوريين ما تراه الدولة بالصراخ الذي يقتبس الغضب "ولاك"، والدولة في نظر السوريين عنصر أمن يرتدي نظارات سوداء مضحكة ويقف كالصنم، لكن صراخه المضمر يهندس كل الحيز العام. فإذا كان المتظاهرون قد كسروا "صنم الباسل" فمعناه أن أصواتهم الحقيقية أخرست كل الصراخ المعلّب لرجال الأمن، بعد أن اجتمعت في الساحة جميع الأصوات حديثة الولادة، لتشكل في اندماجها سيمفونية فريدة من نوعها، تنعش القلب وتكسر القيود، وتحرض على التغيير، التغيير الذي آن أوانه.
من البديهي أن يكثف النظام بعد ذلك من قواه الأمنية في أحياء ديرالزور، محاولاً السيطرة على الشارع، و"إسكات الأصوات التي تعارضه"، من دون أية فائدة، كان صراخه قد تحول إلى هلع، بينما رقعة المظاهرات تتزايد في أيام الجمعة، ما دفع الثوار إلى تبني استراتيجية الاعتصامات المسائية، التي بدأوها في حي المطار القديم في محيط مسجد عثمان، في السادس من أيار، وبقيت الأمور على هذا المنوال حتى سقوط أول شهيد في مظاهرات ديرالزور، وهو الشهيد معاذ الركاض الذي قضى في جمعة أطفال الحرية في حي الجورة في الثالث من حزيران.
مثل استشهاد معاذ نقطة تحول مهمة في حراك ديرالزور، طالما سعى النظام باعتقادي إلى تلافيها في المحافظة ذات الخصوصية العشائرية والطابع القرابي المميز، لقناعته بصعوبة السيطرة الأمنية في حال الوصول إليها، وذاك ما حصل حينما انتفض معظم أبناء محافظة ديرالزور. وقتها صار الإحساس عميقاً بأن من المحال أن توأد الأصوات من جديد، خاصة بعد أن اختلطت مع أصواتنا الوليدة حشرجات قهر إضافية، زادتنا إصراراً على التغيير وعلى نيل الحرية مهما تضاعف الثمن.
توسع نطاق المظاهرات، وازدادت نقاطها، لتشمل جميع المدن والبلدات والقرى، واتخذ الحراك في المدينة شكل المظاهرات اليومية المسائية التي كان ينتهي بها المطاف في ساحة "دوار المدلجي"، مع استمرار التحرك الأسبوعي بعد صلاة الجمعة، ولم يخلُ يوم من سقوط الشهداء أو تشييعهم.
بالطبع لم يرق هذا المشهد اليومي لوكلاء النظام في المحافظة، وكُثفت عمليات المداهمة والاعتقالات، خاصة بعد تسلم الضابط السابق سمير الشيخ منصب محافظ ديرالزور ورئيس اللجنة الأمنية فيها، والتي طلبت تدخل الجيش لاقتحام المحافظة وتقطيع أوصالها، وتحقق ذلك في بداية شهر آب من العام 2011 بالتزامن مع اقتحام مدينة حماة، واعتقل على إثرها الكثير من شباب ديرالزور، ووضعت الحواجز الأمنية بين الأحياء للتضييق على الحراك.
أجبرت ممارسات التضييق الأمنية بعض الشباب على حمل السلاح للحماية الفردية، والتي انتقلت فيما بعد بشكلها شبه المنظم إلى نوع من الحماية الجماعية للمظاهرات التي بدأت تستعيد ألقها شيئاً فشيئاً، بعد استشهاد كل من زياد العبيدي والطفل محمد الملا عيسى، إعداماً ميدانياً على يد قوات الأمن.
انتقل بعد ذلك الحراك إلى المواجهة العسكرية بين الثوار وقوات الأمن إلى حين الهجوم الثاني للجيش على المدينة في شهر حزيران من العام 2012، تبعها في شهر أيلول اقتحام قوات الحرس الجمهوري للمناطق الخاضعة للنظام وقيامها بأبشع المجازر بحق المئات من المدنيين العزل في اليوم الخامس والعشرين منه، لتستمر بعد ذلك سلسلة المجازر المعروفة والمجهولة إلى يومنا هذا، جنباً إلى جنب مع المهازل.
لكن رغم كل شيء، وبعد مرور كل تلك السنوات، ما زلت أتنفس من نسائم المظاهرة الأولى، وما زلت أحيا صيحتها الأولى كلما فاجأني صوتي يتردد في هذا العالم، ويخترق جدران الاستبداد.