- Home
- مقالات
- رأي
النسوية الديريةمن الحبابة إلى العباية الحبر فالجلباب
كان القرار الأصلي أن تكتب هذه المادة الصحفية بلغة أميل للتعبير عن حنين رومانسي، وتقديم شاعري، غير أنّ التفكير في موضوعها من زاوية أنّه صورة لواقع منقرض يستحق الرثاء تبدو استسلاماََ لنهاية لم تحدث بعد، ولأنّه من جهة ثانية -وأكثر أهمية- موضوع يستحق دراسة منهجية تبحث في فعله وأثر وجوده، وعسى أن تكون هذه المقالة حافزاََ يدفع أحد المهتمين القادرين على فعلها.
دير الزور أشبه بجزيرة اجتماعية، حين يتعلق الأمر بوصف التعالقات الثقافية مع محيطها، وهذا لا يعني بالطبع تمييزاََ فوقياََ أو طبقيا، بل هو في تشخيص أوضح تمايز ذو جذر اقتصادي - مدني، يرتبط تأسيساََ بطبيعة الحياة في المدينة التي اعتادت سلوك العاصمة الإقليمية، مع أنّها أحدث من قريناتها التي تمارس نفوذها في محيطهن. ثمّة طابع سيتضح بسرعة لأيّ مراقب خارجي كان سيدخل دير الزور قبل دمارها المادي في سنوات الحرب -وربما تداعيها الاجتماعي قبل ذلك بسنوات طويلة- وهو أنّ النسوية، كفعل مؤثر في توجيه يوميات الحياة العامة، تتمتع بحضور قوي، ولا أقصد فقط ذاك الحضور المألوف في القصّ الاجتماعي، والتراث المحدث لسير التندر الشائعة حول الجلسات والنميمة وإدارة شبكة الخطوبة والزواج -وهو أمر حادث بكل حال في دير الزور، شأنها شأن أيّ مدينة أخرى- إنّما هو أثر يتعدى الحضور المتاح تقليديا، لتصبح النسوية في المدينة أشبه بتقليد غير معلن، يهيمن ويدير تطور التربية والقيم، ويحدد معايير التقييم الطبقي والجمالي، وأحياناََ يكون مؤثراََ بصورة خفيّة على حركية اقتصاد الرجال أنفسهم.
ويقتضي التنويه هنا أنّ تعبير (النسوية)، الذي يرد في غير موضع، لايشير إلى حركة تمرد اجتماعية وثقافية كتلك التي حدثت في الغرب، لكنّه أقرب ما يعبر عن استقلالية المرأة في المدينة، وهو واقع يعرفه ويقر به أبناء الدير، وهي استقلالية لا تحمل طابعاََ خصامياََ مع هيمنة الذكورة المعتادة في الدير، كما غيرها من مدن الشرق الأوسط، والواقع أنّ الهيئة الفعلية لهذه الحالة تقوم على أنّ المجتمع النسائي في الدير يمتلك بنية حياة متماسكة ومتشابكة ومؤثرة على هيمنة الرجال.
هناك ثلاثة أجيال لها طابعها الخاص والمتفرد من النساء مرت على دير الزور، إذا أمكن التصنيف على قاعدة تأثير الواقع السياسي والاقتصادي على المجتمع المديني. الجيل الأول يوشك على الاختفاء، إن لم يكن قد اختفى فعليا. إنّهن العجائز اللاتي ولدن على تخوم الدولة السورية الأولى، وشهدن جزءاََ من الاستقلال وقبله الانتداب الفرنسي، وهنّ من حكمن القيم التربوية والاجتماعية لعقود طويلة، وأسّسن لعادات لم تزل فاعلة في بعض وجوهها حتى يومنا، وفي نهايات حضورهن الطاغي قرابة ثمانيات القرن العشرين انكفأ دورهن إلى حضور شبه صوفي في الحياة اليومية، كحاملات لقيمة الخير المفقود، أو كشاهدات على زمن طحنته التبدلات الاقتصادية الخارجة عن السيطرة. في ذلك الوقت، كان هذا الجيل يراقب تبدل الحال، والفروق الهائلة في التعبير (النسوي) بين بناتهن -الجيل الثاني- الذي كان لهن عليه سلطة مباشرة، وبين حفيداتهن اللاتي يصارعن في معارك لم تكن الجدّات تعرفن لها سببا، أو حتى ضرورة.
«الحبابات» كما يعرفهن الجميع، أو «البنيّات» كما يصفن بعضهن البعض، كنّ يخضن عبر المراقبة والعزوف -كتعبير عن رسالات ذاتية، تقارب العلاقة مع الحياة على أنّها علاقة مع الله- آخر اشتباك مع الواقع اليومي، ومع تبدد صورة النسوية المستقلة، بتبدل ضرورات حياة الرجال؛ الذين باتوا بدورهم يخضعون لشروط سلطة مركبة وقامعة إلى الحدود القصوى، والتي كان من المستحيل على الجيل الثالث من نساء المدينة أن يقاومن أثرها عليهن أولاََ، وانعكاسها على رجال جيلهن لاحقا. ومع أن ّجيل النسوة الأول كان جيلاََ محافظا، يغلب عليه طابع التدين البسيط، وظل يحتفظ طويلاََ بمفاهيم التراتبية العثمانية للمجتمع، التي علمن أنّها كانت قبل «الشنّاق»، وهو الاسم الرمزي لجمال باشا السفّاح. ومع تمسكهن بالانتماء العشائري لتركيب مجتمع دير الزور، فقد قبلن وعايشن بسهولة تحولات بناتهن في الجيل الثاني نحو أنماط أكثر انفتاحاََ واندماجاََ في عقل النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاََ إلى نهايات الثمانينات، حيث تغير كل شيء بقسوة مفرطة. وسيحيلنا هذا نحو مركز النسوية الديرية، الجيل الثاني من نساء الدير، كان قوياً جداً وذا حضور طاغٍ في مسار الحياة العامة للمدينة.
لم تكن دير الزور يوماََ مدينة ثرية بالمعنى التجاري للثراء، ومع أنّها، وريفها الشاسع، تملك وفق المعايير الجيوسياسية مقومات دولة كاملة -في الواقع كان ثمة مشروع بدئي لحكم ذاتي في أوائل القرن العشرين لم يعمر طويلاََ- إلّا أنّها كانت تتصرف دوماََ كمجتمع صانع لهوية مستقلة، ولعل هذا مركز مشاكل الدير مع أنظمة البعث.
في هذا الفقر المتغطرس ظهر جيل «الامّهات» وهن والدات كل تمرد وانحياز وتماه شهدته الدير مع الدولة السورية، خصوصاََ بعد الوحدة مع مصر وانقلاب البعث التأسيسي في 1963. وكي يكون القول منصفا، فإنّ أحد أهم أسباب ظهور هذا الجيل المتمايز هو أنّ رجال الجيل الأول دعموا بقوة تعليم بناتهن، وتقبلوا برحابة تحول أنماط المعيشة التي فرضتها هذه المبدئية المغامرة، ومع وجوب الإقرار أنّ هذا لم يكن يعني انتفاء وجود نسوة مقهورات، عشن تحت شروط عقليات عتيقة ترفض الاعتراف بالتغيير، إلّا أنّ النسبة المنفتحة، التي نحت نحو تكريس مدينية مستقرة، كانت كافية لخلق ما يمكن وصفه بـ«أنتلجنسيا نسائية» في ديرالزور، ساهمت بدورها في تحويل ذهنيات الأجيال اللاحقة عبر التعليم، وعبر صورة مستقرة للمرأة مفرطة الأناقة، وتبديل هيئات الرجال أنفسهم، وتحويل صورة البيت الديري الكلاسيكي من بيت «حبابة» إلى منطق بيوت أسر عاملة. وحتى في مظهرهن، كانت نسوة الجيل الثاني يمثلن حلقة ربط بين حشمة عباءات الحبر -حرير ثقيل أسود- الباذخة بمعايير ذاك الوقت، وبين ما تحتها من أزياء ذات طابع غربي يلاحق خطوط الموضة، عبر ما كان يتسرب من مجلات أزياء فرنسية وإنكليزية، حتى أنَ الخيّاطة صارت جزءاََ أساسياََ من مجموعات الصداقة النسائية في تلك الآونة، كما أنّ نسبة انتشار الحجاب في أوساط المتعلمات كانت منخفضة بشكل واضح.
تمركز الجيل الثاني عملياََ حول ذات القضايا القومية والاقتصادية التي هيمنت في مرحلة نشاطه العملي، ومع أنّهن كن بنات آباء يؤمنون بالدولة -غير المالكة لوسائل الإنتاج- فقد انسقن مع رجال وقتهن نحو توجهات قومية واشتراكية، مالبثت أن دمرت البنية الأساسية للمدينية، وتحولت مع انغلاق فكري وثقافي وطني، وابتزاز شعائري بقضايا «المعركة المصيرية» إلى منظومة قمع وحشية، أكلت أرواح أولادهن، بل وحوّلت بعضهن إلى أخيلة لجيل فقد سلطته على تحولات نهايته. بين الستينات وأواسط الثمانينات كانت (النسوية) الديرية في أقوى ظهوراتها على مستوى تشكيل هوية ووجه المدينة، وهي حتى، وإن كانت في معناها تغاير التعريف المعتاد لانقلاب فكري مؤنث على ذكورة المجتمع والسلطة، فقد كانت ثورة اجتماعية مدعومة بقوة جيل السطوة (المالك) من الرجال.
الواقع أنّ هوية المدينية الديرية لطالما تشكلت عبر علاقات أجيال متعاقبة ومتباينة -الآباء مع البنات والأمهات مع الأبناء- وهذا ما سيفسر إلى حد ما التحول الأخير الذي طرأ مع بداية التسعينات، واستمر حتى قيام الثورة.
في الطور الأخير لهذه النسوية تدخّل الفقر -أو بدقة أكبر الإفقار- بقسوة في حياة الناس، وعلى إثر سنوات الاعتقالات والاختفاءات التي تبعت انتفاضة الإخوان المسلمين ضد نظام حافظ الأسد، وبوجود الحصار الدولي على سوريا، انهارت دفاعات المجتمع إزاء تدخلات رعاها النظام نفسه لتسريب الطاقة السلبية نحو مسارات أكثر أمنا.
والحق، أنّ الجيل الثالث من النساء تعرض إلى اعتداء ممنهج على معاييره الأنثوية للعالم، إذ بينما كانت أمهاتهن تحصلن في شبابهن على حماية أبوية، وتشهدن تحولاََ ثقافياََ يدفع نحو تعزيز الحضور الأنثوي بالتعليم والأناقة، وتعلم بروتوكولات الحياة العصرية، فإنّ بنات الجيل الثالث عوملن كأنهن جنديات في فرق عسكرية، وكان من الصعب على أي أحد أن يحميهن من سطوة مدربات الفتوة والتربية العسكرية، ولبس الكاكي الميداني المقرف، والتعرض لعقوبات جسدية مشتقة من تدريب القوات الخاصة، أضف إلى ذلك انهيار قيمة العلم، وتلاشي الفرق في الجدوى بين التفوق الدراسي وعدمه، حين نزلت المظليات من الطائرات العسكرية إلى قاعات الجامعات. إنهن بنات مجتمع فقد رؤيته لنفسه، وغرق في فساد حكومي و اقتصادي ومالي قوّض كل أحلامهن، كما أحلام مجايليهن من الذكور، لكنّ هذا يجب ألا يكون سبباََ لتعجل الاستنتاج بأنهن –وبأنهم– جيل مهزوم، فهم في الحقيقة من قام بالثورة، ومنهم غالبية شهدائها.
جيل النسوية الثالثة هذا جيل بارع، تعلّم مبكراََ السير على «شفرة ادعاء الحياد واللامبالاة»، وتلقّى علوم التملص من مزالق التعبير التي قد يحضرها عنصر مخابرات سيحولها إلى نهاية حالكة في أحد المعتقلات، لكنّه جيل اضطر لمقارنة ظالمة بين ماضي الأمهات، كما تبدو صورهن بالأبيض والأسود، وبين حاضر تقود وعيه وسلوكه معلمات التيارات الدينية الصاعدة. هن الجيل الذي شهد اندفاع البلاد نحو عقلية تمجيد الفقر والعبثية كتربية تحيل مشاكل الناس اليومية المزمنة والمتراكمة إلى ظواهر غير مفهومة، وغير قابلة للفهم وللتفسير، لكن يمكن الإفلات من شرورها ولو نفسياً باللجوء إلى التدين. مظهرياََ كان هذا وقت انسحاب العباءات لصالح الجلباب، ووقت تحول «الأنتلجنسيا المؤنثة» بسطوتها الاجتماعية إلى سباق محموم على درجات الثانوية العامة لضمان مقعد في جامعة تدخلها «خليفات مدربات الفتوة» بفارق 45 درجة أقل.
ثورة النسوية الثالثة في دير الزور -وغيرها حقّا من مدن في سوريا- لم تكن نسخة من تحوّل صورة الفارس التي شهدتها أمهاتهن انطلاقاََ من الأب (المالك) إلى المثقف القومي اليساري، وهي علاقة إيجابية من اتجاهها نحو طرفي التعبير الذكوري. ثورة النسوية الثالثة كانت تحوّلاََ من علاقة تعايش مع جحيم النسخة الرجولية لمدربة التربية العسكرية، في شخص عنصر أمن أو مسؤول مدني لص مدعوم من جهة أمنية، إلى علاقة تحدّ لهذا الواقع، بدعم شبّان مقهورين تحولوا لاحقاََ إلى ما بتنا نعرفه باسم…«الجيش السوري الحر».