- Home
- مقالات
- رادار المدينة
النازحون في السويداء.. من (المخاطرة) باستقبالهم حتى الدفاع عنهم
تغير المزاج الشعبي في السويداء بالتزامن مع تآكل سلطة الأسد فيها، فانتقلت الأصوات المعارضة على سبيل المثال من الحيز المكتوم إلى الجهر. قبله لم يكن الحال كما هو عليه الآن، إذ كان استقبال النازحين فقط يشكل مغامرة وخطراً أمنياً وضعني تحته الجيران الموالون للأسد، ودورية الأمن التي جاءت لتسجيل أسماء عائلتين من النازحين استضفتهما في المنزل.
في أحد مساءات تشرين الثاني من عام 2012، وأخبار القصف والقتل والدمار على امتداد الساحة السورية، ما خلا بعض المدن -ومنها السويداء- التي ظلت بعيدة عن الصراع المسلح المحتدم بين تشكيلات المعارضة المسلحة من جهة، والنظام والجهات الداعمة له من جهة أخرى- وصلت آلاف العوائل النازحة إلى السويداء. في بلدتي افترشت العشرات منها الساحة العامة لا يعرفون الخطوة التالية؛ كان المكان بالنسبة إليهم ما يزال لغزاً، وأهله مقفلون أمامهم حرفياً باستثناء مجموعة من الناشطين.
العديد من أفراد المجموعة لا يندرجون ضمن مصطلح "الناشطين" الذي ظهر بعد العام 2011 في المحافظات الساخنة، فنشاط المجموعة يصنف على أنه سياسي بالدرجة الأولى؛ انخراطاً في الأحزاب أو الشأن العام، واتخاذ مسافة من السلطة.. وليس من النوع الإغاثي والإعلامي والتحريضي الذي صار يعنيه النشاط في محافظات أخرى، لكن استجابتهم لمعاناة النازحين كانت مساوية لاستجابة أي ناشطين في إدلب أو دير الزور أو ريف حلب، إذ توجهوا إلى الساحة لاستقبال النازحين واستضافتهم في منازلهم، بعد أن تركوا (مثلي) متابعة أخبار المعارك والنزوح على الشاشات مع عائلاتهم.
عدت إلى المنزل مع عائلتين من حمص ومن حلب، وما إن بدأنا بتقديم واجب الضيافة والراحة لهما حتى طرق بابنا عنصران من أمن الدولة، وصار الأمر أكثر إرباكاً عندما خرج بعض الجيران يهتفون للنظام ويعبّرون عن انزعاجهم من وفود النازحين إلى المحافظة واستقبالهم. خرج أطفال الجيران يحملون أعلاماً ويهزجون بأغانٍ تمجّد "القائد المفدى" وصيحات لقّنهم إياها ذووهم، مثل"الأسد إلى الأبد.. والأسد أو نحرق البلد"، فكانت مسيرة ليلية صغيرة أمام منزلنا.
حاول طفلي الصغير أن يجاريهم فراح يغني ويهتف معهم، لكنهم صرخوا في وجهه، فعاد باكياً لأنهم لا يلعبون معه لعبة الهتافات، فهذه "اللعبة ليست لمن استضاف وافداً".. هذه لعبة الموالين للنظام حصراً، الذين يقفون موقفاً صارماً من كل ضحايا حربه المفتوحة على مناطق انتشار معارضيه!.
العائلتان استقرتا في بيتنا حوالي أسبوعين، تقاسمنا معهم خلالهما بيتنا الصغير، الذي عشنا فيه تفاصيل الحياة اليومية كأشبه ما يكون بأسرة واحدة زاد عدد أفرادها أضعافاً بشكل مفاجئ، إلى حين استطعنا تأمين بيت لهم استأجروه ضمن نفس البلدة.
المضايقات كانت يومية من بعض الجيران، والأمن جاء لتسجيل أسماء العائلات وأفرادها، ولسؤالهم عن الطريق الذي سلكوه في نزوحهم وكيفية وصولهم إلى السويداء. ربما خضعت الأسماء للتفييش، لكن والحمد لله لم يعتقل أي شخص منهم، إذ يبدو أنهم لم يكونوا مطلوبين للنظام.
ربما تكون هذه الحكاية واحدة من مئات القصص التي عاشتها محافظة السويداء حول الانقسام الذي ساد مجتمعها في تلك الفترة، رغم كونه مجتمعاً متماسكاً إلى حدّ ما، لكن انقسام الآراء حول الموقف من النظام بين موالٍ ومعارض، جعل الانقسام حتى على مسألة استقبال النازحين، فكان يعتبرهم الموالون خصوماً لأنهم من مناطق انتفض شبابها ضد النظام، بينما اعتبرهم المعارضون أخوة وأشقاء في الوطن، والثورة أحياناً. ومع ذلك، فقد توالى النزوح الداخلي القسري على مدى سنوات عدة إلى المحافظة الآمنة نسبياً، فشكّل المعارضون للنظام في السويداء لجان إغاثة لإيواء النازحين وإعالتهم، معتمدين على التبرّعات الإنسانية المموّلة من أبناء المحافظة المغتربين ومن المجتمع المحلي. وبعد أن وصل تعداد الوافدين إلى المحافظة حوالي 15 ألف شخص معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، افتتح مراكز إيواء لهم في العام 2012 في معسكر الطلائع والمدينة الصناعية بمدينة "شهبا" و"مطرانية خربا" و"مطرانية السويداء" وبعض مضافات جبل العرب والدور الواسعة، وفي مطلع عام 2018 وصل عدد النازحين إلى حدود 200 ألف شخص وفق أرقام منظمة الهلال الأحمر.
تابعت لجان الهلال الأحمر وهيئات المجتمع الأهلي عمليات الإغاثة ولو بتدخّلٍ بسيط وإشراف مسيّس من قبل أجهزة الدولة، وتأثر النازحون بتزايد عمليات القتل والخطف والتهريب من قبل عصابات مختلفة الانتماء في السويداء، وتخلّي السلطة المقصود عن لعب دورها الأمني والحمائي المطلوب، وهذا ما أدى إلى عمليات نزوحٍ معاكسة وعودة الكثير من العوائل إلى المناطق التي أتوا منها خوفاً من الاعتداء عليهم من قبل تلك العصابات.
وكان السبب الرئيسي استعادة النظام السوري سيطرته على درعا وريف دمشق ومناطق أخرى في حمص وحماة بعد عام 2018، ورغبة الآلاف في العودة إلى منازلهم. ومع النزوح المعاكس تراجع عدد النازحين في السويداء إلى حوالي 15 ألف شخص في الوقت الحالي، ينتشر معظمهم في مخيمات عشوائية غربي المحافظة ويعملون بالزراعة، مع وجود مئات العوائل التي ما تزال تقيم في منازل مستأجرة داخل المدن والبلدات الرئيسية، حيث ظلت قيمة الإيجار منخفضة قياساً بباقي المناطق، كون الكثافة السكانية في السويداء منخفضة. اليوم مثلاً إيجار الشقة بمدينة السويداء يتراوح بين 100 و500 ألف ليرة سورية، بينما يبلغ في الأرياف والبلدات 75 ألف.
أما "مخيم رساس" جنوب المحافظة المعروف أيضاً بمخيم الطلائع، فهو المركز الوحيد الذي ما يزال موجوداً، وفيه تتعرض عشرات العوائل للمضايقات لإخلائه منذ آب الماضي، حتى أن فرع الأمن السياسي طلب ممن تبقى من النازحين المقيمين فيه إخلاءه عدّة مرّات بحجة أن مديرية التربية ترغب في إعادة تفعيل معسكرات الطلائع. لكن من تبقى من النازحين رفض المغادرة، فمناطقهم ما تزال غير آمنة وبيوتهم مدمرة.
لجأ المسؤولون عن المخيم إلى قطع المياه والمساعدات عن قاطنيه لأكثر من شهر، ولولا تدخل وجهاء وشخصيات دينية من أهالي السويداء لاستمرت اللجنة المسؤولة عن المخيم بقطع الخدمات لطرد النازحين منه بإيعاز من فرع الأمن السياسي، في جو عام لم يعد فيه صوت من يرحبون بإيواء النازحين أو معارضة النظام أو حتى إسقاطه مكتوماً.