- Home
- مقالات
- رادار المدينة
الطبقة.. ويكيبيديا الحلم الضائع
لم ترتبط مدينة في سورية بمَعلم تاريخي أو اقتصادي أو اجتماعي من معالمها كما ارتبطت مدينة الطبقة بسد الفرات. يصعب ذكر الطبقة دون السد ولا يمكن الحديث عن اجتماع أو اقتصاد أو سكان فيها دون الرجوع إليه. فالطبقة بنت السد وقبله لا شيء، قرية صغيرة على الضفة اليمنى للفرات لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف من عشائر ريفية محلية، مثلها كمثل بقية القرى والبلدات في وادي الفرات.
سد الفرات مشروع قديم فرضته طبيعة النهر وسلوكه، فقد شكل فيضانه رعباً موسمياً في حياة السكان على امتداد الحوض النهري الواسع. ظهرت فكرة السد بعيد الاستقلال، وطرحت -حسب ما يقال- منتصف خمسينيات القرن الماضي على حكومة خالد العظم، ثم في عهد الوحدة مع مصر تيمناً بالسد العالي على نهر النيل، ثم مع الانفصال وحقبة البعث الأولى بعد العام 1963. إلا أن الفكرة لم تبصر النور إلا في زمن حكومة الدكتور يوسف زعين، ابن مدينة البوكمال الفراتية، وهو المدرك لأهمية هكذا مشروع بحكم نشأته وأحلامه التحديثية التي أجهضت باكراً. في العام 1968 وقع بروتوكول التعاون مع الاتحاد السوفييتي لإنشاء السد، بعد اقتراحات أن يُنشأ بخبرات غربية فرنسية وألمانية. ويدحض هذا التاريخ المزاعم الشائعة بأن السد من منجزات حافظ الأسد وحركته التصحيحية، تلك المزاعم التي تبناها تكريساً للدعاية الأسدية آخرون من خارج دائرة النظام، مثلما فعل مذيع ومعدو برنامج «رحلة في الذاكرة» على قناة روسيا اليوم عندما استضافوا كبير مهندسي السد، غينادي نيفيودوف، الذي سايرهم في مغالطتهم التاريخية الرخيصة عن وقت انطلاق المشروع.
شخصياً قدم والدي للعمل في السد، مع آلاف غيره، عام 1969، وشقيقتي الكبرى ولِدت هناك قبل انقلاب حافظ الأسد بشهور طويلة. إلا أن هذا لا يمنع من القول إن حكومة الأسد استثمرت إعلامياً واقتصادياً وسياسياً في السد وقيمته كمشروع نهضوي وتنموي، كحامل لمشروعها السياسي في الاستيلاء والاستحواذ على السلطة الكاملة في سوريا. إذ خصصت الحكومات المتعاقبة في بداية حكم الأسد وزارة خاصة لسد الفرات تبوأ كرسيّها عدد من الشخصيات الهندسية المهمة مثل صبحي كحالة، المهندس المعروف والمشهور، ولم تلغَ هذه الوزارة إلا بعد الانتهاء من بناء السد وتشغيل مولداته الكهربائية عام 1978.
يذكر أهل الطبقة الأوائل الشخصيات السياسية والاجتماعية المهمة التي كانت تزور الطبقة والسد في تلك الفترة، فالدكتاتور الروماني تشاوشيسكو مشى في شوارع الطبقة، وكذلك فعلت فالنتينا تشيركوفا أول رائدة فضاء في العالم. كان مشروع السد أفضل ما يمكن تقديمه لزوار سوريا الأسد في تلك الفترة. ولا غرابة أن يكون السد موضوعاً أدبياً وفنياً لكثير من الأعمال، كفيلم المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي «محاولة عن سد الفرات»، وهو فيلمه الأول، عام 1970، والذي سيتبعه لاحقاً بفيلم آخر بالرؤية ذاتها هو «الحياة اليومية في قرية سورية»، ثم بفيلم «طوفان في بلاد البعث» برؤية نقدية للنظام انطلاقاً من هذا المشروع. وكتب فارس زرزور روايته «آن له أن ينصاع» عن السد وحياة الناس في الطبقة والمنطقة، كما كتب عبد السلام العجيلي رواية «المغمورون» عن أهل الغمر الذين غطت قراهم بحيرة السد وهجّروا من أراضيهم وقراهم إلى مناطق الحسكة، كما كتب نزار قباني قصائد يتغزل فيها بالسد والحلم الذي يحمله هذا المشروع. كان أهل الطبقة في السبعينات يشعرون أنهم في مركز سوريا والعالم.
وصل عدد سكان الطبقة إلى ما يقارب المئة وخمسين ألفاً توزعوا على مدينتين متجاورتين ببلديتين منفصلتين قبل أن تندمجا في بلدية واحدة؛ الطبقة القديمة، أو القرية كما تسمى محلياً، والثورة، وهي المدينة الحديثة التي بنيت بجوار السد بأحيائها المنظمة وشوارعها العريضة وتصميمها المستوحى من مدن العمال والموظفين السوفييتية، حيث تتجمع المساكن والأبنية حول سوق مركزي ومجمعات تعليمية وملاعب. يغلب على القرية أو الطبقة القديمة البناء الريفي الأقرب إلى العشوائي، قبل أن تظهر لاحقاً أبنية حديثة بناها أهلها الذين يغلب فيهم العنصر المحلي من أبناء المنطقة وعشائرها من الولدة والبوجابر والناصر والحويوات وغيرهم، وحتى سكان الغمر الذين عاد بعضهم واستقر فيها، مع عدد كبير أيضاً من أبناء المحافظات الأخرى العاملين في السد وغيره من المؤسسات الحكومية الناشئة. أما القسم الحديث من المدينة فيغلب عليه الوافدون من المحافظات الأخرى أو حتى من خارج البلد. كانت الطبقة مزيجاً واسعاً من البشر على اختلاف انتماءاتهم المناطقية والعرقية والدينية والمذهبية؛ حلبيون ودمشقيون وحماصنة وديريون وأدالبة وحوارنة ولاذقيون، عرب وكرد وشركس وشيشان وآشور وتركمان وسريان، مسيحيون ومسلمون، سنة و شيعة وعلويون ودروز وإسماعيليون وإيزيديون، فلسطينيون وعراقيون وسوفييت أيضاً. كنا نسميهم الروس، وكان لهم حضور قوي في حياة الطبقة وأهلها. وصل عددهم في بداية المشروع إلى بضعة آلاف، وكانت لهم منشآتهم الخاصة؛ مدرسة الروس وملعب ومسبح وسينما الروس. تعلم الكثير من أهل الطبقة، وخاصة أصحاب المحلات التجارية، اللغة الروسية جراء اختلاطهم واحتكاكهم مع هؤلاء. وتكلم أبناء الوافدين إلى الطبقة لهجة خاصة هي مزيج مخفف من لهجات سورية مختلفة. تنوع المنابت، مع حضور السوفييت، أعطى المدينة -مع بعض المبالغة- طابعاً كوزموبوليتياً من نوع خاص، وأخذ مجتمعها الوليد صبغة مدنية حديثة غلبت إلى حد ما حمولات السكان من مجتمعاتهم الأصلية، خاصة في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. ولعب عاملان رئيسيان دورهما في تشكل مجتمع الطبقة وفق صبغته تلك؛ أولهما المنبت الطبقي والمناطقي المتشابه للوافدين، فغالبيتهم جاؤوا من الأرياف السورية من بيئات فقيرة، أو متوسطة بنسبة أقل، وصاروا موظفين حكوميين ينتظرون معاشاتهم آخر كل شهر، ويعيشون في جو واحد وظروف متشابهة هي أفضل بطبيعة الحال من ظروفهم السابقة من ناحية السكن والخدمات والصحة والتعليم الذي كان مختلطاً للذكور والإناث خلافاً لمعظم المناطق السورية آنذاك. وثانيهما هو ما مثله العمل في السد من قيم مفترضة في النهضة والتنمية والتغيير، منحت الجميع مشاعر بالأهمية والرضى عن الذات الفردية والعامة. إذ لبى السد معظم احتياجات البلاد من الطاقة الكهربائية، وكان مفتاح سلسلة مشاريع الري واستصلاح الأراضي في محافظة الرقة والريف الشرقي لمحافظة حلب. وبسواعد عمال سد الفرات وخبراتهم أنشئ سدان آخران هما تشرين والبعث على النهر نفسه. وكانت الشركة العامة لاستصلاح الأراضي والمؤسسة العامة لسد الفرات من أغنى شركات القطاع العام في سورية، قبل أن تفرض الطبيعة الفاسدة للنظام آثارها لتتحول هذه المنجزات من مؤسسات وطنية ناجحة إلى ما يشبه الإقطاعات الخاصة للأعيان الجدد المرتبطين برؤوس النظام.
وابتداء من عقد التسعينات، ومع انضمام الآلاف من أبناء الموظفين الأوائل إلى سوق العمل، وتقلص الفرص المتاحة أمامهم للتوظيف في القطاع العام، وتآكل الصورة الواعدة التي انطلقت بها؛ صارت الطبقة مكاناً نابذاً لأبنائها الشباب الذين اختاروا بمعظمهم الرحيل بحثاً عن مستقبل في المدن الكبرى أو حتى في المدن الأصغر القريبة من الأرياف التي جاء منها الآباء.
ذهبت الأوهام والخطط الخمسية بأن يكون السد ومدينته قاطرة نهضة في وادي الفرات، إذ تباطأت الاندفاعة قبل أن تتوقف وترتد عكساً بتملح مساحات شاسعة من الأراضي المستصلحة. شاخ العمال والموظفون الأوائل وعاد بعضهم أدراجه بعد التقاعد إلى ديارهم الأولى، أو ظلوا شهوداً على صعود حلم الفرات ثم تلاشيه، مثلما تلاشت أحلام كثيرة في سوريا حافظ وبشار الأسد. وكبر الفتية والأطفال السعداء على الطريقة التمثيلية السوفييتية ليصيروا رجالاً يبحثون بعيداً عن حياة أخرى ستفرض عليهم استعادة الهويات السابقة.
قامت الثورة في سورية وشارك أهل الطبقة، خاصة من أبنائها المحليين، بمظاهرات عديدة وإن كانت قليلة. واعتقل كثير من أبنائها سواء المحليين أو الوافدين، ومنهم على سبيل المثال أبو علي، فائق المير، القيادي النشيط في حزب الشعب، والذي كان مكوكاً حقيقياً في نشاطه الثوري في أكثر من مكان في سورية، واعتقل أثناء تنقله بين دمشق والغوطة قبل أربع سنوات دون أي خبر عن مكان اعتقاله حتى الآن.
تحررت الطبقة من قبضة النظام بداية العام 2013 بيد فصائل مختلفة من أبنائها ومن مناطق أخرى، وأخذت تتعرض لقصف شديد من طيران النظام وآلته الحربية، ما جعل المخاوف حقيقية من أن يطال القصف بنية السد وتحدث كارثة بيئية مدمرة. نشأت في الطبقة تجربة حكم محلي قصيرة ومتعثرة، قبل أن تقع المدينة تحت قبضة تنظيم داعش أول العام 2014.