- Home
- مقالات
- ملف
الطبقة قبل داعش وبعدها
تقع مدينة الطبقة على الضفة اليمنى لنهر الفرات، وتبعد عن مدينة الرقة –مركز المحافظة- (55) كم. تجاوز عدد سكانها قبل الثورة (80) ألف نسمة، وارتبط تحولها من قرية إلى مدينة بمشروع سد الفرات الذي انطلقت أعماله عام 1968.
نظرة على المجتمع
توزع السكان قبل الثورة على جزئين رئيسيين هما: المدينة العمالية التي بنيت لسكن العاملين في السد والملحقات الحكومية المرتبطة به وعائلاتهم، والقرية التي اتسعت بدورها منذ ذلك التاريخ. ورغم الاتصال المعماري اللاحق، ظل النسيج الاجتماعي في مدينة الطبقة منفصلاً إلى حد كبير بين فئتين أساسيتين، الأولى تمثل السكان الأصليين قبل السد، والثانية تمثل الوافدين -25 ألف نسمة تقريباً- من محافظات مختلفة للعمل في الوظائف الحكومية التي أتاحها مشروع السد والمشاريع الأخرى المنبثقة عنه.
باندلاع الثورة ثم خروج النظام من الطبقة، في شباط 2013، غادرها القسم الأكبر من الوافدين، وبقي فيها الأشد ارتباطاً منهم بمجتمعها الأصلي، مثل كثير من الوافدين من ريف دير الزور، أو من كان مستقلاً في أعمال ومهن حرة مثل مئات العائلات الوافدة من قرية منّغ في ريف حلب الشمالي.
حاله كحال معظم مجتمعات وادي الفرات، يتألف مجتمع الطبقة والريف التابع لها من عشائر، تتحدر في الطبقة بمعظمها من بطن الولدة من قبيلة البوشعبان، القبيلة الأكبر في محافظة الرقة. يقيم في الطبقة وجوارها من الولدة فروع الناصر والعجيل والحويوات. ويقيم فيها أيضاً البوجابر وهم فرع من قبيلة الجبور، والوهب وهم فرع صغير يتصل في الأعلى بقبيلة شمر.
تقع في الناصر رئاسة عشيرة الولدة بعائلتين مشيخيتين، الأولى هي عائلة فرج السلامة للولدة المقيمين في الشامية جنوب نهر الفرات، من دبسي عفنان غرباً وحتى هنيدة في الشرق مروراً بالطبقة، والثانية هي عائلة البورسان للولدة المقيمين في الجزيرة (شمال النهر) . للناصر تاريخ حافل في مقارعة السلطات منذ الانتداب الفرنسي على سورية، انقطع بتصالح مع الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، وتجدد بانقلاب حزب البعث عام 1963 ليغيب منذ ذلك التاريخ آخر النواب البرلمانيين من عائلة الفرج. تعمقت الخصومة مع البعث في مرحلة حكمه الثانية بين عامي (1966-1970) بسبب قوانين التأميم والإصلاح الزراعي التي طالت مساحات شاسعة من أراضي العشيرة، قبل أن تغمر مياه البحيرة خلف سد الفرات مساحات أخرى، وتنشأ من حينها ظاهرة عرب الغمر الذين أعطاهم حافظ الأسد، بدل أرضهم المغمورة بمياه البحيرة، أراض على الحدود السورية التركية شمال محافظة الحسكة، ليكونوا حاجزاً بشرياً بين الأكراد على جانبي الحدود. بالغمر، ثم بالتعويض عنه بعيداً، ظلمت الولدة مرتين، مرة بسلب الأرض وأخرى بتفتيت العشيرة. وكان لهذه المظلمة، إلى جانب مظالم أخرى في القمع والاضطهاد والتوزيع الظالم للثروات والخدمات والوظائف، دور أساسي في اصطفاف الولدة -بجزئها الشامي خاصة- إلى جانب الثورة وفي انخراطها الحاسم فيها. وبعد سيطرة تنظيم داعش على الطبقة، ورغم انتساب العشرات من أبناء هذا الجزء إلى صفوف التنظيم، ظل موقف العشيرة العام مناهضاً له، وقضى عشرات آخرون تحت التعذيب في معتقلاته.
بعد الرحيل المؤكد لداعش عن الطبقة في الأشهر القادمة، يبدو نجاح مؤسسات الحكم المحلي الناشئة مرهوناً بمشاركة الولدة، أو الناصر تحديداً، فرعها الأكبر في المدينة. ومع الإدراك الظاهر من جانب «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) لأهمية الولدة، بتسمية الشيخ سعيد محمود البورسان رئيساً مشاركاً لمجلس الرقة المدني؛ لا بد عليها من المضي أكثر لاسترضاء قادة الفرع الشامي لهذه العشيرة من آل الفرج، وهو الاسترضاء الصعب حسب ما يؤكد معظمهم. لقد تناقلت وسائل إعلام تابعة لقوات سوريا الديمقراطية، قبل يومين، تصريحاً منسوباً للشيخ حامد عبد الرحمن الفرج يقول فيه إنه انضم وعشيرته بمحض إرادتهم إلى هذه القوات، لكن أقارب الشيخ يسردون رواية أخرى تقول إن قوات سوريا الديمقراطية اعتقلته يوم سيطرتها على مزرعة الصفصافة قرب الطبقة. ويقول فرج حمود الفرج، وهو عضو سابق في هيئة أركان الجيش الحر وناشط معروف في مدينة الطبقة، إن ابن عمه الشيخ حامد محتجز لدى قسد، وإن التصريح المنسوب إليه انتزع منه بالإكراه لترويج دعاية أن أهالي الطبقة وشخصياتها المؤثرة يؤيدون هذه القوات، وإن هذا التصريح يسيء للعشيرة ويظلم تاريخها في التصدي للظلم والطغيان. ويقلل فرج حمود الفرج من تأثير هذا التصريح على عشيرة الولدة وعلى أبناء الطبقة بشكل عام. ويتساءل: «كيف لرجل قتلت قوات بشار الأسد أبيه، بقصف بيته في عام 2013، أن ينضم إلى حلفاء بشار وتابعيه في قسد اليوم؟». «رجال النظام ومخبروه وشبيحته في الرقة معظمهم في صفوف قسد اليوم»، وفق ما يقول. ويجعل فرج من علاقة هذه القوات بالنظام سبباً لرفضه الاعتراف بأي سلطة لها، ويعدّها قوة احتلال تسعى إلى فرض إرادتها ومشروعها السياسي بالقوة مثلما فعلت داعش، وإن كانت قسد أخف وطأة.
فرج حمود الفرج
يقول الحاج عبد الفتاح المجيد الحاج عبد، وهو واحد من الوجوه البارزة في عشيرة الناصر، إن أي تعامل من الأهالي مع سلطات قسد في الطبقة سيكون تعايشاً تحت الأمر الواقع، وهو يتفهم مواقف الناس ورغبتهم في الخلاص من داعش بأي شكل، دون أن يتنازل عن إخلاصه العميق للثورة ومبادئها. شارك الحاج، الذي يبلغ (62) عاماً اليوم، في المظاهرات وكان له تأثير واسع فيها، ورفض الرضوخ للتهديدات وللإغراءات التي عرضها عليه قادة مخابرات النظام في محافظة الرقة. فقد الرجل أحد أبنائه شهيداً في المعارك ضد جيش الأسد، قبل أن تأتي داعش وتلاحقه ثم تستولي على ممتلكاته كلها، من بيت وآلات ومعدات زراعية وأرض. وهو يقضي معظم يومه -في جرابلس حيث يقيم- في مساعدة أبناء الطبقة النازحين إلى هناك.
الحاج عبد الفتاح مجيد العبد
إلى جانب إقناع الجماعات الأهلية بالمشاركة العامة تبرز مهمات ثقيلة أخرى أمام أي سلطة تحل في الطبقة بعد رحيل داعش، تتجسد في إصلاح البنية التحتية وإطلاق الخدمات الحيوية في حقول الصحة والتعليم والقضاء والأمن. وعلى فرض توقف الأضرار التي لحقت بالمنشآت العامة عند حدودها الحالية، وهو فرض مستحيل مع الاحتمالات المنذرة بمدينة مدمرة بالكامل تقريباً في نهاية المطاف، ستواجه السلطة بعد داعش مشكلات كبرى لن تتمكن من التغلب عليها دون دعم دولي ودون خطة إعادة إعمار شاملة تشارك فيها هيئات ومنظمات دولية ذات صلة.
ففي قطاع التعليم دمرت (8) من أصل (21) مدرسة تدميراً كاملاً، وخرجت المدارس الأخرى عن الخدمة لما لحق بها من أضرار متفاوتة الدرجة. ومن بين (5) أفران سويت (3) بالأرض وبقي اثنان يمكن تشغيلهما بعد الصيانة وتأمين ما يلزم من طحين ومحروقات. وكذلك حال القطاع الصحي مع الدمار الهائل الذي لحق بالمشفى الحكومي، ثم بالمستوصفين الرئيسيين في القرية والأحياء، وبالمستوصفات التابعة للمؤسسات الرسمية السابقة. ووفق ما قدر مسؤول سابق في مديرية صحة الرقة قبل الثورة، يزيد عدد العيادات الخاصة في الطبقة عن (50)، والصيدليات عن (20)، مؤكداً على ضرورة أن يبدأ العمل الصحي بتشغيل المشفى الحكومي قبل أي منشأة أخرى، مع الانتباه إلى ضرورة إدخال تجهيزات طبية بأسرع وقت ممكن إلى المدينة لعلاج الحالات الحادة والمزمنة، بالتزامن مع إطلاق حملات لقاح واسعة.
وطالما كانت المعركة والغارات الجوية والقصف المدفعي مستمرة، لا قيمة لأي حصر للأضرار أو تقديرها، لكن قد تنفع الأرقام والمعطيات السابقة في الأسابيع الأولى بعد رحيل داعش حين تطلق الأعمال الإسعافية الأولى للسكان المنكوبين حتماً وقتذاك، إلى جانب من يفضل من النازحين العودة الباكرة.
الطبقة اليوم
في اليوم الثاني للحصار طافت سيارة لتنظيم داعش في الشوارع وأذاعت بلاغاً عبر مكبرات الصوت، حذر الأهالي من التحلل من «تعاليم دينهم» في حال انشغال الحسبة والشرطة الإسلامية بالقتال. وكذلك فعل خطباء الجمعة الأخيرة في المساجد القليلة التي أقيمت فيها الصلاة، إذ أوصوا المصلين، في خطب قصيرة على غير العادة، بالصبر، لأن هذا الحصار ما هو إلا «محنة وشدة زائلة».
وسوى الكلام لم يقدم التنظيم ما يساعد الناس على التحمل، مع انقطاع الكهرباء للأسبوع الثالث على التوالي، وكذلك مياه الشرب، قبل أن تتوقف الأفران والمشافي والخدمات العامة الأخرى عن العمل. وتتناقص يوماً بعد يوم كميات المواد الغذائية والأدوية والسلع الضرورية، سواء منها ما خزّنه الأهالي في الأيام الأخيرة قبل الحصار أم ما خزّنه التجار في مستودعاتهم. ولم يظهر التنظيم أي استجابة أو اهتمام بإعانة السكان سوى بأعمال وقرارات مرتجلة، مثل استيلائه على الطحين من مستودعات التجار وعرضه للبيع بأسعار مخفضة، مطالباً الأهالي أن يتدبروا أمرهم ويصنعوا الخبز في البيوت.
لا تفصّل الأنباء الشحيحة الآتية من داخل الطبقة عن أحوال الناس هناك، في ظل انقطاعهم عن العالم وحتى عن مناطق داعش الأخرى المنعزلة أصلاً. ومن ثم يصعب الاطلاع على مواقفهم مما يجري، لكن الخوف والترقب المذعور من الأيام القادمة هو عنوان انشغالهم الأول. يقول أسامة –اسم وهمي- وهو نازح في الأربعينات من العمر نجح مع زوجته وأطفاله في الوصول إلى بلدة المنصورة قبل الحصار، إنه يعدّ نفسه محظوظاً بهروبه من الطبقة، رغم أنه ما يزال تحت سلطة داعش ويقيم اليوم في خيمة أو شبه خيمة ويكاد ما ادخره وزوجته من المال ينفد. «طبعاً أتمنى تمشي داعش بأسرع وقت وبأقل خسائر بين الناس» لأن بقاءها، حسب ما يقول، هو الخيار الأسوأ، وإن كانت «سوريا الديمقراطية»، التي يلفظ اسمها بالكاد، ليست البديل المثالي، لكنها «أفضل من داعش بكل الأحوال». تتشابه الآراء التي تقال همساً خوفاً من آذان داعش في مستقرات النزوح القريبة، أما في الأنحاء الأبعد في قرى دير الزور فتظهر أصوات تؤيد داعش بين النازحين إلى هناك.
تستقبل الإدارة الذاتية، التي تعمل كذراع مدنية في مناطق قوات سوريا الديمقراطية، النازحين من الطبقة في أمكنة مؤقتة أهمها مدرسة بقرية (المحمودلي) وأخرى في بلدة (الجرنية) شمال وشمال غرب الطبقة، قبل أن تنقلهم نحو مخيمين في قرية عين عيسى وقرب مدينة منبج، وتفرض -لأسباب أمنية- على كل من يريد الإقامة الطبيعية في مناطق سيطرتها الحصول على كفالة من شخص يعرفه ويزكيه بأنه غير موال لداعش.
تتطابق آراء النازحين إلى هناك بعدّ داعش أذى مطلقاً «يتخذ من الدين وسيلة لخداع الناس واستعبادهم»، كما يقول معلم مدرسة سابق في الخمسينات من العمر، طلب إخفاء اسمه خوفاً على حياة بعض أشقائه الذين ما يزالون في مناطق داعش. ويقارن المعلم بين ما يدعيه التنظيم من تمسك بالشرع الإسلامي وبين ما يفعله، ويكشف مسالك شائنة لبعض أشهر شرعييه. ينتظر المعلم كفالة من قريب له مقيم في الجرنية ليتمكن من الخروج فوراً من مكان انتظاره المؤقت، ولا يكشف عن خططه لما بعد ذلك، لكنه ربما يظل في الجرنية إن تيسرت له فرص عيش واقامة مناسبة، وربما انطلق شمالاً إلى منبج ثم إلى الريف الشمالي المحرر من حلب حيث وصلت مئات العائلات إلى جرابلس والراعي والباب وغيرها. يحرص المعلم أن يكون حذراً في إجاباته عن ما بعد داعش ويكتفي بالقول إنه متفائل وإن أيامه القادمة أفضل، مهما كانت، من السنوات الثلاث التي قضاها تحت حكم التنظيم. وفي منبج يتكرر الموقف ذاته إزاء داعش في أوساط النازحين من الطبقة. يقول أبو مصطفى، المتقاعد من وظيفة حكومية، إنه لا يجد بأساً في أي سلطة جديدة غير داعش لأنها -على الأقل- ستسمح للناس «بشمّ الهوا مثلما يريدون»، لكنه يعبّر عن مخاوف من أن تقع مظالم جديدة وتظهر نوازع انتقام وسيطرة وتُفرض على الناس غصباً «شغلات ما يريدونها». ويبدو أن هذا المتقاعد واحد من قلة تستجمع شجاعتها على الكلام في منبج، مقابل أغلبية تكتفي بذم داعش وإبداء رضاها عن أي طريقة للخلاص، فضلاً عن قلة أخرى (انظر نتائج استطلاع الرأي) تبدي حماساً إضافياً لسيطرة قسد وحكمها المحتمل للطبقة. أبو علي، الذي عرّف عن نفسه بأنه موظف حكومي حتى الآن يقيم في منبج مؤقتاً بانتظار رحيل داعش عن الطبقة، واحد من تلك القلة المتحمسة للعهد الجديد المحتمل في المدينة. ويبرر حماسه هذا بأن «سوريا الديمقراطية» قوة منظمة وقادرة على تأمين المستلزمات الأساسية للسكان، مثلما كانت قبل «الأحداث» عام 2011. ويشكو أبو علي من الظلم الذي لحقه في عهد داعش خلال عامين خضع خلالهما لسلسلة من دورات الاستتابة الإجبارية لأنه «حزبي بعثي» كما يقول.
في الباب وجرابلس واعزاز، وفي كل القرى الواقعة تحت سيطرة الجيش الحر في ريف حلب الشمالي الشرقي، حيث وصلت مئات العائلات النازحة من الطبقة؛ تكاد وجهات النظر تجمع على أن داعش هي الخيار الأسوأ، وعلى أن «قوات سوريا الديمقراطية» ليست البديل الذي يتمنون، وعلى أن حكمها للطبقة سيكون أمراً واقعاً يفرض على الناس فرضاً. بينما ينقسم الرأي حول العودة إلى الطبقة والبقاء بين من هو مستعد للتعايش مع قسد هناك ومن هو رافض لذلك، مؤثراً استمرار حياة النزوح إلى أن تتغير الأحوال.
استطلاع رأي:
أجرت «عين المدينة» استطلاع رأي جزئي على نازحين من الطبقة في قرى عين عيسى والمحمودلي والجرنية في الرقة، وفي منبج وجرابلس والراعي واعزاز في محافظة حلب؛ سألت فيه (100) من النازحين عن موقفهم من داعش وعن احتمال عودتهم إلى الطبقة في حال سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية، وعن مشاركتهم في الأنشطة والفعاليات المنبثقة عن سلطاتها.