- Home
- مقالات
- رادار المدينة
السوريون وتعاقب الفصول.. رحلة الشتاء والصيف
كان أبي يعشق الشتاء، كمعظم السوريين الذين يغريهم الفصل البارد بما يحويه من خير ومطر، وما توفره أجواؤه الرومانسية بالقرب من المدفأة، فيما ترتطم حبات المطر في الخارج بصوت رتيب محبب إلى النفوس ومثير للأحلام والأمنيات الكثيرة. أما أنا فمن أنصار الصيف القليلين في بلدنا والذين يتلقون سيلاً من الدعوات الممزوجة بالسخرية كلما احمر قرص الشمس في "عز آب اللهاب" وارتفعت درجة الحرارة إلى ما لا يحمد عقباه، وغدت المنازل والمتاجر والشوارع أشبه بفرن كبير.
ربما يكون تباين وجهات النظر ناجماً عن التجارب الشخصية لكلينا. أبي الذي ينتمي إلى جيل الستينات عاش شتاءات جميلة دافئة امتزجت بنوع من الاستقرار والأمن، فيما عاش الجيل الذي أنتمي إليه (التسعينات) شتاءات المعارك والقصف والحصار البارد والقاسي الذي يندر أن يخلو على مر العقد الماضي من كارثة ما، من قبيل معركة ضارية أو غارات حربية تخلف مجازر رهيبة أو نزوح مرير يجعل من الشتاء عاملاً مساعداً للكوارث، بعكس ما يفعله فصل الصيف الدافئ في هذه الحالات.
تعكس غريزة النملة التي خزنت القمح في الصيف وأكلته في الشتاء في قصة "الجندب والنملة"، تعامل السوريين من جيل أبي مع المناخ، سواء عرفوا القصة من دراستهم الابتدائية أو لم يعرفوها؛ الصيف للتعب وبذل الجهد والتخزين والجمع، أما الشتاء الذي يستهلك مخزون المونة فللراحة والدعة وحفظ الطاقة، تُستقبل بشائره بحب مع أغنية "رجع أيلول" ثم "رجعت الشتوية" الهادئتين، وبدء موسم الحصول على التعليم الذي تبدلت معالمه المألوفة، وصار دراسة أو كتابة تحت اللحاف وعلى ضوء الشموع.
ولأن الطابع الريفي ظل المتغلب على سوريا، بقيت الثقافة الشعبية المتعلقة بالفصول والمرتبطة بالمطر والأرض موضع احترام وتقدير، وتشكل تأطيراً للمناخ بما يتناسب مع مراحل نمو النبات، ولا يزال السوريون حتى الآن يعتنون بهذا الموروث، وينظرون إلى حكمة الأجداد بشكل لائق كونها أطرت الأزمنة المناخية في سوريا بدقة وجمال، دون أن يعني ذلك أن ثلماً لم يصب سلسلة توريث الحكمة مع التغيرات الكبرى التي طالت الدولة والمجتمع والثقافة السورية.
ألتراس الفصلين
تعلم السوريون في المدارس الابتدائية أن الجو في سوريا حار صيفاً معتدل شتاء، لكن بعد مضي أكثر من عقد على الحرب تفرض الظروف الاقتصادية والخدمية الصعبة قوانينها على نظرة السوريين إلى الفصول، فيغدو لتوفر الكهرباء أو توقف المعارك أو نضج محصول القمح، الدور الأبرز في تفضيل فصل على آخر.
في مطلع الألفية الثالثة كانت سوريا تعاني من قحط كبير نتيجة تقلص نسبة الأمطار، وكانت الشمس تسطع في معظم أيام الكانونين وشباط أشهر الشتاء، لذلك كنا نشعر بأن ما تعلمناه في المدرسة حول المناخ صحيح تماماً؛ الجو في الشتاء كان معتدلاً إلى حد ما، بينما كان الصيف يأتي محملاً بأجواء من القيظ حفزت آلاف السكان على تركيب المكيفات، وهي ظاهرة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً ب"سرقة الكهرباء"، حيث كان السكان يتلاعبون بالعدادات ليقلصوا من حجم فاتورة ضخمة تترتب عليهم جراء المصروف الكبير لآلات التكييف.
مع السنوات التي تلت اندلاع الثورة السورية ودخول البلاد في تداعيات الحرب الاقتصادية والمعيشية، لم تعد هذه المعادلة المناخية المدرسية صحيحة بالنسبة إلى آلاف السوريين. تطورت معادلة جديدة تعتمد على المستوى المعيشي للفرد، مع ناتج ضربه بالمستوى الخدمي لمكان الإقامة.
هكذا ظهر مستوى تباين كبير في وجهات النظر حول الفصول وتواليها على السوريين الممرغين بأوحال الحرب وويلاتها. أبو جابر الخمسيني الذي يعيش تحت خيمة قماشية في أطمة شمالي غرب سوريا، يعتبر أن مناخ سوريا معتدل فقط في أشهر محدودة: تشرين الثاني، أيار، وحزيران؛ باقي الفصول متطرفة في البرودة أو في الحر.
مناخياً قد تكون الأشهر التي يشير إليها أبو جابر تخضع للمعادلة المدرسية المعروفة، لكنها من الناحية الاقتصادية والخدمية ليست كذلك؛ في الأشهر الباردة لا يمتلك أبو جابر ثمن مازوت أو حطب أو فحم أو حتى قماش التدفئة، وفي الأشهر الحارة تغدو الخيمة فرناً حقيقياً لا تفلح كل المحاولات في تبريده.
وأم تحسين التي تقيم في دمشق حيث ينقطع التيار الكهربائي لفترات طويلة، تفضل جميع أشهر السنة التي تطلع فيها الشمس لارتباط الأخيرة بالحصول على الطاقة النظيفة، مع ما توفره من تهوية وتشغيل آلات مهمة في الصيف كالبراد وجهاز البعوض، إضافة إلى جوال مشحون دائماً وجهاز تلفزيون جالب للتسلية في السهرة.
أما في أشهر الشتاء التي تطلع فيها الشمس، فتعيش أم تحسين في الظلام بسبب عدم فعالية ألواح الطاقة الشمسية مع تلبد السماء بالغيوم. ومع انعدام وسائل التدفئة تضطر إلى الاستعانة بالأغطية السميكة بجوال "فاضي من الشحن" وتلفزيون مطفأ، وهذا ما يجعل الشتاء يمر ببطء شديد.
الشرخ الذي طال المفاضلة بين الفصول انعكس على وسائل التواصل الاجتماعي بوستات وتغريدات وتعليقات وهاشتاغات متضادة، تسخر في الغالب من مفضلي الفصل المخالف خاصة الصيف، أو متعاطفة مع من يلتحمون مع الشتاء، وتنشط في ذروة كلا الفصلين الرئيسيين.
صيف الحصار المنتظر وشتاء المعارك
أثناء الحصار الذي عاشته مدن وبلدات غوطتي دمشق الشرقية والغربية بين أعوام 2013 وحتى 2018، تبدلت وجهات نظر المحاصرين إلى الفصول، ولم يعد الشتاء بأمطاره وسهراته الدافئة مغرياً. حوّل الحصار ليالي الشتاء الطويلة إلى أزمنة صقيعية لا تفلح معها جميع الجهود المتواضعة للتخفيف من لسعاتها الباردة، لأن وسائل التدفئة غير متاحة.
في تلك السنوات عاش الصيف مجده الحقيقي؛ الموسم الذي ينتظره المحاصرون للحصول على الطعام والفاكهة المتنوعة والغنية بالسكريات في وقت يغدو الحصول على ملعقة سكر ضرباً من الأحلام. تغيرت المعادلة في الحصار من النظر المناخي البحت لتعاقب الفصول، إلى رؤية المشهد من زاوية الحصول على الطعام بغض النظر عن الحر أو البرد الذين يمكن التغلب عليهما ببعض الوسائل البدائية.
صار الصيف موسم الخضار التي تشكل عامل شبع أكثر من نظيراتها الشتوية المقتصرة على الكوسا والأعشاب. أما فاكهة الصيف فهي ما تشتهر به أرض الغوطة الخصبة، وتوفر العنب والتين والرمان والمشمش والبطيخ في صيف المحاصرين يعد كافياً لوحده، ليكسب الصيف جولته كأفضل فصول السنة التي تنتظرها البطون الجائعة.
لكن تبقى المفاضلة صعبة في نواحي أخرى، فليالي الصيف مليئة بالبق والناموس الذي ظهر بأحجام كبيرة لم يألفها المحاصرون، الذين أعادوا اكتشاف الناموسيات القماشية، وآنية الماء الفخارية المدككة بقماش سميك من "الخيش" المبلول والمعلقة في الهواء الطلق للحصول على ماء الشرب البارد.
في المقابل اطمأن المحاصرون في الأيام الغائمة المكفهرة من الشتاء، إلى توقف القصف. ومنذ التدخل الروسي في سوريا ارتبط فصل الخريف بالنسبة إلى المحاصرين بالكوارث الناجمة عن الحملات العسكرية الشتوية التي تبدأ عادة في تشرين الثاني. وخلال المعارك المحتدمة ونشاط حركات النزوح يتحول الشتاء إلى نقمة، بينما يكون النزوح في فصل الصيف نعمة كبيرة جداً قياساً إلى غيره من النزوحات.