أم خليل امرأةٌ من الرقة، جاءت تسأل ناشطين إغاثيين سابقين شيئاً يساعدها في اطعام أولادها الأربعة، وهم «الأيتام اللي ما لهم أحد غير الله» حسب ما تقول. ولم تجد -مثل كثيرين غيرها- جواباً لسؤالها اليائس: «يعني ما بي شي بنوب برمضان؟».
وسوى الغارات الجوية على المدينة، لا يهتم الجائعون كثيراً بأخبار الحرب وتقدم أعداء داعش نحو الرقة. شاغلهم الأول أن يمرّ اليوم بسلامٍ وأن يتاح لهم شيءٌ ليكون وجبة إفطارٍ في أيام الصيام الحارّة والمرهقة، و«الكئيبة» أيضاً حسب ما يقول عبد الله، وهو ناشطٌ إغاثيٌّ سابق، لأن «الناس يأسانة ومحبوسة وخايفة، وفوق كل شي داعش ملاحقتنا وكاتمة أنفاسنا».
خلال عامين ونصفٍ من سيطرة داعش تغيّرت الرقة كثيراً، من «بلد خيرٍ لا يجوع فيه أحد» إلى سجنٍ واسعٍ يزداد فيه عدد المعوزين كلّ يوم. وفي هذا العام أكملت داعش ما بدأته بتدمير آخر الأنشطة الخيرية المتبقية، حتى تلك التي تموَّل من أطرافٍ أهلية، مثل مطبخٍ خيريٍّ كان يقدّم أكثر من خمسة آلاف وجبةٍ للمحتاجين كلّ يوم، بل أوقفت بعض الأعمال الخيرية التي أنشأتها هي على سبيل الدعاية في أوقاتٍ سابقة. كما منعت المقتدرين من دفع الزكاة إلى مستحقيها مباشرةً، وحصرت أداء هذه الفريضة بجهازها الخاصّ المسمى «ديوان الزكاة». ويجيب شرعيو داعش عن تساؤلات الناس عن سبب توقف هذا الديوان عن مساعدة المحتاجين بأن «الدولة في عسرٍ هذه الأيام»، بعد أن خسرت أكثر من نصف مواردها المالية نتيجة قصف المواقع النفطية الواقعة تحت سيطرتها، بالتزامن مع زيادة نفقات الحرب التي يخوضها التنظيم على جبهاتٍ كثيرة. ولتكتمل أعذار الدواعش الواهية قُصِف المقرّ الرئيسيّ لديوان الزكاة في مدينة الرقة الشهر الفائت.
يفسّر كثيرٌ من السكان إمساك داعش وبخلها في مساعدة المحتاجين برغبة التنظيم في دفع أعدادٍ أكبر من الرجال إلى الانضمام إليه والقتال في صفوفه طمعاً بالرواتب الشهرية. فالانتماء إلى داعش هو الوظيفة الوحيدة المتاحة تقريباً. ويقدّر موظفٌ سابقٌ في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل عدد العاملين «لدى الدولة» –الدولة السورية قبل الثورة- بأكثر من 100 ألف عامل، أكثر من نصفهم ما زالوا يقيمون في المحافظة، لا يستطيعون استلام رواتبهم من مناطق سيطرة النظام. بالإضافة إلى آلافٍ آخرين ممن اعتادوا العمل في لبنان ويعجزون اليوم عن السفر إلى هناك بعد أن منعت داعش خروج الناس من مناطق سيطرتها. وأسهمت ندرة البضائع المختلفة بسبب انقطاع الطرق، وكذلك انهيار الليرة السورية، في ارتفاع الأسعار إلى حدودٍ يعجز عندها معظم السكان عن الشراء. ولتكتمل الصورة مأساويةً أضيف إلى حشود العاطلين عن العمل أكثر من ألفي عاملٍ في بيع وتكرير النفط الخام نتيجة الاستهداف المتكرّر لصهاريج النفط القادمة من محافظة دير الزور من قبل طائرات التحالف الدوليّ، وأضعافهم من أصحاب المهن الحرّة المتنوعة.
وبالرغم من المساحات الشاسعة للأراضي الزراعية المروية في محافظة الرقة، تتراجع إنتاجيات المحاصيل السنوية عاماً بعد عام في ظلّ سيطرة داعش، نتيجة العوامل المعروفة من غلاء أسعار البذور والأسمدة والمحروقات، مما أدى إلى تقلص المساحات المزروعة. وتضاف إلى هذا تصرفات مسؤولي داعش في دواوين أو أجهزة الزراعة والريّ والخدمات؛ فقد أدى بيع «ديوان زراعة» داعش بذار حنطةٍ فاسدٍ إلى فشل موسم القمح في قرىً عدّة، وأدت أوامر أبو يوسف المصري -أمير سد الفرات- بفتح عنفتين إضافيتين، إلى جانب عنفتين تفتحان عادةً في هذه الأشهر من السنة، بهدف زيادة الطاقة الكهربائية المتولدة، إلى انخفاض منسوب المياه المحجوزة في البحيرة خلف السد مما حرم عشرات القرى المطلة على البحيرة (مثل قرى العميرات؛ مشرفة الصعب؛ أبو هريرة؛ الكرين؛ البوعاصي؛ غزالة شرقية؛ غزالة غربية؛ السلوم؛ العارف) من المياه اللازمة لريّ الأراضي الزراعية فيها، ليلجأ فلاحو هذه القرى إلى الزراعة البعلية في أرضٍ ظلت مرويةً لعقود.