- Home
- مقالات
- رأي
التيارات الجهادية... وجه آخر للاستبداد
مؤخراً انتشر مقطع فيديو يظهر فيه عناصر تنظيم جهادي في الشمال السوري وهم يعذبون معتقلاً لديهم؛ لن تجد فارقاً بين ذلك المقطع وعشرات المقاطع التي تم تسريبها لعناصر قوات النظام، فاللغة نفسها واحتقار وإذلال الإنسان نفسه.
فنحن حرفياً أمام إعادة إنتاج النظام الاستبدادي، ولكن بصيغة جهادية هذه المرة؛ ولم تكن حادثة اغتيال الناشطين البارزين رائد الفارس وحمود جنيد في كفرنبل التابعة لمحافظة إدلب سوى واحدة من حوادث عديدة من إنتاج تلك الصيغة.
على مدى السنوات السبع الماضية، ارتكبت تنظيمات جهادية، وبمسميات متنوعة وفي أماكن مختلفة، جرائم كبيرة بحق ناشطين سلميين أو قادة ثوريين كانوا يواجهون نظام الأسد، وبقدر ما تبدو الصورة واضحة بالنسبة إلى السوريين، فهم لم يحتاجوا وقتاً طويلاً ليعرفوا القاتل الملثم في جريمة اغتيال الفارس وجنيد، كذلك عرفوا أن من اختطف رزان زيتونة ورفاقها في غوطة دمشق لم يكن نظام الأسد، وإنما تنظيم جهادي له أجندة خاصة مختلفة تماماً عن مشروع الثورة السورية، ولذلك فإن وجود القوى المدنية المتمسكة بأهداف الثورة سوف يظل مؤرقاً لتلك التيارات والتنظيمات، التي استطاعت أن ترتبط بدورها بقوى خارجية تقدم لها تمويلاً كبيراً، وقد استقطبت بسبب ذلك التمويل عدداً كبيراً من المقاتلين الذين سيقال عنهم لاحقاً بأنهم ليسوا سوى مرتزقة، يقاتلون لمن يدفع لهم.
في سنوات الثورة الماضية، كانت التنظيمات الجهادية أو ميليشياتها سبباً مباشراً بإفشال تجارب ثورية مدنية كثيرة، نتيجة إصرارها على الهيمنة ورفضها العمل مع أي تكتل مدني، وصولاً إلى معاداته ومحاربته؛ فتتدرج الحوادث تباعاً، ليبرز التكفير وحكم الردة سلاحين نوعيين في آلية عمل تلك المجموعات العابرة للحدود، كما حدث في مدينة البوكمال غداة تشكيل المجلس المحلي فيها، الذي أسسه أبناء المدينة الثائرون ضد النظام، فقد رفضت جبهة النصرة في صورتها الأولى أي تعامل أو تنسيق مع ذلك المجلس، بل وشكلت لنفسها (مجلس شرعياً) خاصاً بها، ومن خلال قدرتها على استجلاب تمويل خارجي، استطاعت أن تكون أقوى مادياً وعسكرياً.
لم تلقَ الجبهة قبولاً اجتماعياً كبيراً، لأنها انفتحت على استخدام عناصر غير سوريين. سيكون على سبيل المثال (قاضيها) في مدينة البوكمال شخصاً عراقياً، تشير معلومات متطابقة بأنه كان فيما مضى عنصر أمن في جهازات المخابرات العراقية إبان حكم الرئيس الأسبق صدام حسين؛ ولاحقاً ستقوم جبهة النصرة بتسليم مدينة البوكمال لتنظيم داعش.
تكرر الأمر ذاته في أكثر من مكان، إذ نعرف تماماً أن أبرز قادة التنظيمات الجهادية في منطقة الجنوب السوري كانوا من غير السوريين، أردنيون أو فلسطينيون، تشير معلومات مؤكدة أنهم مرتبطون كلياً بجهاز المخابرات الأردني؛ وهم أيضاً، وكما حدث في كل مكان تقريباً، حاربوا الكيانات المدنية العاملة في الجنوب، واغتالوا من وصلت إليه أيديهم، واستطاعوا بعد ذلك أن يفرضوا سيطرتهم.
على سبيل المثال، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور ومقاطع فيديو لما قيل إنه مجلس القضاء الذي تشكل في مدينة درعا، وقد ضم ذلك المجلس أميين، وأصحاب سوابق، كان عملهم الأساسي ينصب على تكفير أي مسعى لفرض حالة مدنية، وفي جانب الهجوم على قيم الثورة ستكون الحالة الدلالية العارية متمثلة في شخصية المحيسني في الشمال، حين أصدر الشيخ سعودي الجنسية، والقيادي البارز في جبهة النصرة، خطبة مطولة يعتبر فيها الديمقراطية كفراً، وهو يشدد في كل مرة يظهر فيها على أن الأهم بالنسبة إليه محاربة "النصيريين"، الأمر الذي يصطدم بقيم الثورة وروحها، ويصب بقصد أو من غير قصد في مصلحة النظام، إذ يؤكد مزاعمه الكاذبة عن الثورة ومنذ أيامها الأولى، حين اعتبر على لسان مستشارة الأسد بثينة شعبان أن ما يحدث فتنة طائفية تقف خلفها تنظيمات جهادية متشددة.
ألا يؤكد لنا الحال الذي وصلنا إليه الآن ما كان مؤكداً منذ سنوات، بأن تلك التنظيمات إنما ظهرت لسبب واحد فقط، وهو ضرب الثورة السورية، وتعطيل مشروع التحرر الذي كانت تهدف إليه؟ وأن عبارة التنظيمات الشهيرة بأنها (ما جاءت إلا لنصرة هذا الدين)، يمكن وبسهولة قراءتها على حقيقتها: فهي إنما جاءت لنصرة ذلك النظام، الذي حولها وبسهولة إلى ورقة رابحة في يده، وسوف يصدقه العالم بسببها؛ وهل يحتاج العالم لأكثر من تلك الأفعال القذرة سبباً ليقول إن الثورة ماتت، وإن ما يحدث في سوريا هو حرب على الجماعات الإرهابية المتشددة؟
على أي حال، يبقى المشهد في سوريا ضبابياً، فلم يحسم الصراع بعد، إذ تستطيع الثورة أن تستعيد قدرتها على التأثير، لكنها أيضاً بحاجة لمراجعة شاملة لذلك الخلل الذي وقعت فيه، فلا يمكن أن يصدق أبناؤها أن تياراً جهادياً، أياً كان شكله، قد يؤمن في يوم من الأيام بقيم العدالة والحرية والديمقراطية، والتي تمثل أهداف الثورة السورية وحقيقتها الوحيدة.