- Home
- مقالات
- رادار المدينة
التغلّب وفتاوى المتغلّبين
لم يعد من السهل إحصاء التبريرات التي تُشرعن اعتداءات هيئة تحرير الشام على الفصائل بحجة التغلّب[1]، وبات استدعاء النصوص الدينية والحوادث التاريخية الشغل الشاغل لشرعيي الهيئة ومن يدور في فلكهم. فما هي مشروعية التغلب، وما هي أسبابه ومبرراته في سورية؟
أصل التغلّب
لم ينص الإسلام على مشروعية التغلب في تولي الحكم، ولم يقرّ وقوعه. ولو أمعنّا النّظر في القرآن والسنّة وسير الخلفاء الراشدين لما وجدنا له أصلاً. ما نصّ عليه الشرع، في باب السياسة والحكم وشؤون العامة، هو الشورى وما ينتج عنها من اختيار؛ إذاً كيف يستقيم هذا مع أحكام الفقهاء القدامى وتأصيلهم للمسألة؟
يقول الباحث في الشؤون الإسلامية، د. محمد نور حمدان، لمجلة «عين المدينة»: كلام الفقهاء عن التغلّب جاء في مرحلة تلت التغلب، بعدما استتب الأمر للحاكم المتغلّب وليس قبله، بمعنى أنهم تعاملوا معه كأمر واقع حقناً للدماء، ومن باب درء المفسدة العظمى بمفسدة أدنى. ورغم ذلك فإنه مشروط عندهم بأن يرفع المتغلّب الظلم وينصف المظلوم ويقيم الشرع. علماً أنهم كانوا لا يقرّون تغلّبه ولو توافرت فيه جميع الشروط التي نصّوا عليها، بل كانوا يشيرون إلى ضرورة تغييره سلماً ما إن تسنح الفرصة لذلك!
التغلّب من وجهة نظر الجولاني
يرى الجولاني أن التغلب هو الحل الوحيد لتوحيد الساحة. ووفق ما نقله المغرّد الجهادي صالح الحموي –صاحب معرِّف «أس الصراع في الشام»، وهو قيادي سابق من مؤسسي جبهة النصرة- مستنكراً، عن الجولاني: «إن التاريخ الإسلامي لم يقم إلا بالتغلب، ولن أكون أورع من عبد الملك بن مروان[2]، والله سيغفر لي الدماء لأن نيتي توحيد الساحة». وحول هذه الادعاء رد الباحث في الفقه السياسي، المعروف على تويتر باسم «محمد الأمين»، قائلاً: يتوهم بعض «المناهجة» أن البغدادي أو الجولاني سيوحّد البلاد كما فعل ابن تاشفين، إلا أن الحقيقة التي يجهلونها أن ابن تاشفين قاتل الإسبان وهزمهم وعاد إلى بلاده، إذ لم يكن راغباً بالأندلس لولا إلحاح من الفقهاء والوجهاء وخوفه من تسليم ملوك الطوائف لها.
يضيف الأمين: قتال الجولاني للفصائل يشبه قتال ملوك الطوائف. بل إن أفعاله تشابه أفعال تيمورلنك الذي اتهم مَلِكَ دلهي المسلم بالتساهل مع الهندوس، فغزا بلاده ودمّرها، ودمّر ممالك إسلامية من الهند إلى موسكو مروراً بدمشق وأنقرة، وحوّلها إلى أنقاض بحجّة التخلص من الفاسدين، ثم عاد منسحباً إلى بلاده!
دعاة التغلّب في سورية
كثيرة هي الشخصيات التي لعبت دوراً في تقديم المسوغات الفقهية للتغلب والمتغلّبين. وبما أن المجال لا يتسع لذكرهم جميعاً فإننا نذكر أحد أبرزهم، وهو محمد ناجي الملقب بـ«أبو اليقظان المصري»، شرعي الجناح العسكري في هيئة تحرير الشام (شرعي سابق في أحرار الشام)، الذي أثار تسجيل صوتي مسرّب له مؤخراً موجة من السخط العارم. إذ قال فيه إن إنهاء «أحرار الشام» قرارٌ «سياديّ» اتخذته الهيئة، وجاءت في التسجيل فتوى أباح بموجبها لمقاتليه، خلال حملتهم العسكرية ضد الأحرار، استهداف مقاتلي الحركة مباشرة في الرأس بدعوى التترّس[3]، قائلاً: «نحن نقتل ونقول تترّس»! وهو ما يعيد إلى أذهاننا الخطاب المسرّب لمفتي مصر، علي جمعة، أمام ضباط القوات المسلحة إبان انقلاب السيسي بقوله: «اضرب في المليان». ليثبت لنا أبو اليقظان ومن على شاكلته أن دعاة السلاطين ليسوا حكراً على الأنظمة الفاسدة والحكّام فحسب!
وقد أجبر الاستنكار الواسع لفتوى أبو اليقظان هذه هيئة تحرير الشام على إصدار بيان رسمي تبرّأت فيه منها، مشيرة إلى أنها لا تمثل رأي المجلس الشرعي، وإلى أنها ستتخذ الإجراء المناسب في حق أبو اليقظان وفق النظام الداخلي للمجلس!
نختم بالقول: إن ما شهدناه في سورياً عموماً، وفي الشمال خصوصاً، من حوادث اعتداء متكررة تقوم بها جبهة تحرير الشام، ومن قبلها داعش، بدعوى «توحيد الساحة» ومحاربة المفسدين وغيرها، لا أراه إلا نوعاً من الاستبداد السياسي بدافع حب السلطة، وإرضاءً لنزوات وأحلام شخصية على حساب ثورة بُذلت لأجلها تضحيات عظام، وربما أيضاً تصفية لخلافات سياسية وأيديولوجية ممتدة من سجن صيدنايا بين متزعمي تيارات السلفيّة الجهاديّة. أما إضفاء القداسة الدينية على حوادث البغي والاعتداء فليس سوى جرعات مخدّرة لسوق العناصر إلى حتفهم ودفعهم لتحقيق أحلام أمرائهم، وربما تنفيذاً لأجندات دولية يشير إليها الكثيرون.
فهل يستيقظ العقلاء بينهم قبل فوات الأوان؟
---------------------------------------------------------------------------------
[1] - المتغلّب هو الذي يستولي على الحكم بالقوة ويستقر له الأمر دون أن يختاره الناس. وفي عرفنا المعاصر قد يطلق الوصف على قائد انقلاب أو من في حكمه من أمراء الحرب المتمكنين.
[2] - تسلَّم الدولة الأموية وهي في حالة اضطرابات وانقسام، وهو لا يسيطر إلا على الشام وجزء من الأردن، فيما يسيطر الخليفة القرشيّ عبد الله بن الزبير على العراق والحجاز، حتى تمكن ابن مروان من القضاء على غريمه عام 73هـ، ويوحد العالم الإسلامي تحت حكمه، ولأجل ذلك رمى الكعبة بالمنجنيق.
[3] - أن يحتمي العدو ويتترّس بمسلمين – في ما يعرف في زماننا بالدروع البشرية- ليمنع عن نفسه الضربات. وقد أجاز العلماء قديماً قتل هؤلاء الأسرى بشروط صارمةٍ منها: أن يستحيل دفع العدوّ بأي طريقة أخرى.