- Home
- مقالات
- رادار المدينة
الانتحار حل اليائسات في إدلب زمن الحرب
في موكب مهيب يسوده الصمت وبعض الأنين مرت جنازة الشابة رانيا في الشارع الرئيسي لمدينة تفتناز شمال سوريا في الشهر التاسع من هذا العام، وسط عبارات الحسرة التي يرددها بعض المشيعين من أقربائها وذويها. والد زوجها الذي كان له الدور الأكبر في معاناتها يقول: "لم أتوقع أنها سوف تقتل نفسها بعد الطلاق"، في جانب آخر من جموع المشيعين يخرج صوت أمها وهي تقول: "ليتني فكرت ألف مرة قبل أن أزوجك لهذه العائلة يا بنتي".
لم تكن رانيا البالغة من العمر 24 عاماً الضحية الأولى للانتحار بسبب الحياة البائسة والأوضاع المعيشية الصعبة والحالة الاجتماعية المضطربة، فالانتحار استمر بالانتشار في إدلب على مدار السنوات الفائتة.
تقول خالة رانيا: "رغم صبر ابنة أختي على وضع زوجها الذي لا ينجب وتحملها لذلك في سبيل محبتها له، إلا أن والد زوجها لم يكن يرغب بوجودها، وكان يسبب لها المشاكل باستمرار معتقداً بكل جهل أنها هي سبب عدم الإنجاب، متجاهلاً كل التقارير الطبية التي تثبت عكس ذلك".
اضطرت رانيا على مدار سنوات زواجها أن تترك بيت زوجها عدة مرات بسبب المعاناة والمشاكل التي كان يسببها لها والده، وفي كل مرة قصدت فيها بيت أهلها كان الزوج يسافر إلى قرية دير بلوط لاسترضائها وإعادتها معه، إلى أن أجبره والده آخر الأمر على أن يطلقها نهائياً، فلم تحتمل ذلك.
تقول والدتها: "عندما أخبرتني ابنتي أن نأتي لأخذها لأن زوجها قد طلقها، أسرعنا بالذهاب أنا وأبوها. لم نتأخر، لكننا تفاجأنا بأنها قد أقدمت على ابتلاع حبة من الغاز السام". تقصد الأم بالغاز السام المبيد الحشري فوسفيد الألومنيوم الذي يباع على شكل حبوب ويطلق غاز الفوسفين الميت عند تعرضه للرطوبة.
والدة رانيا تتمنى لو أن ابنتها حاولت الانتحار وفشلت، لكانت راقبتها واستعلمت منها عن الأسباب وعالجت الأمر، وتعترف بتقصيرها وزوجها في متابعة حياة ابنتهما الزوجية بسبب بعد المسافة وانشغالهم بشؤون بقية الأولاد التسعة الذين فقدوا أختهم الكبيرة رانيا التي تزوجت في سن صغيرة.
يتعلق الانتحار بأسباب نفسية خاصة بالمنتحر من الصعب الوقوف عليها دون معرفة شاملة تحيط بتكوينه النفسي والاستعدادات التي يحملها وتعاطيه مع مشاكله؛ لكن التزايد الملحوظ في حالات الانتحار بين النساء في إدلب وحدوث قسم كبير منها بعد خلافات عائلية، يرجح ارتباط تلك الحالات بكون المرأة هي الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة في العلاقات الاجتماعية السائدة حالياً في إدلب، إن كان ذلك بين النازحين إليها أو بين المضيفين.
حالة ميساء درباس التي ضجت بها وسائل الإعلام في أيلول 2020 تؤكد ذلك، وقد أقدمت على الانتحار بعد أن يئست من مؤازرة أهلها لها في قضية حقها في حضانة أولادها بعد طلاقها من زوجها، إذ كانت صلة القرابة بين العائلتين تقف حائلاً دون تدخلهم.
قرابة العائلتين عقدت أيدي أهل ميساء عن التدخل لمنع زوجها (ابن العم) من ضربها. وحسب زميلة ميساء في مهنة التعليم، فالأخيرة جاءت عدة مرات وآثار الضرب بادية على وجهها، كما كانت تضطر إلى قطع المسافة بين البيت والمدرسة مشياً على الأقدام، لأن زوجها كان يمنعها من ركوب السيارات بحجة غيرتها عليها.
وضحة العثمان مديرة جمعية رفقاً النسائية وباحثة اجتماعية، ترى بأن الظروف السيئة بسبب الحرب والعنف ضد المرأة من قبل الزوج والأقارب من أهم أسباب زيادة الانتحار في الشمال السوري. إذ يعد شعور المرأة -أو الشخص بشكل عام- أن وجودها مهم في حياة الآخرين وشعورها بأنها تحب أحداً ما وتتعلق بالحياة لأجل الأشخاص الذين تحبهم، هو أكثر شعور يجعلها متمسكة بالحياة وفق العثمان، وحين تفقد المرأة أحباءها مثل أولادها وزوجها بسبب الطلاق والخلافات العائلية، فإن ذلك يؤثر في نفسيتها وحياتها وشعورها بغاية وجودها في الحياة.
تغيب الإحصائيات الدقيقة عن عدد المنتحرين في شمال غرب سوريا بسبب تكتم البعض خوفاً من الملاحقة القضائية أو الوصم الاجتماعي، كما أن الإحصائيات المتوفرة جزئية تخص عينات قصدية أمكن الوصول إليها من قبل الجهات التي أجرت الإحصائية أو متسرعة وغير دقيقة، كما تهمل محاولات الانتحار أي حالات الانتحار التي باءت بالفشل.
ناهد (35 عاماً من كفرنبل) إحدى حالات محاولات الانتحار. ألقت بنفسها من أعلى سطح منزلها. لم يحدث ما كانت تتوقعه وتخطط، ولم تحصد سوى أوجاع وكسور في مختلف أنحاء جسمها أضيفت إلى معاناتها النفسية. وفي أول جواب عن سبب إقدامها على الانتحار تقول ناهد: "أريد أن أريح غيري وأرتاح".
أختها الوحيدة رهف تقول أن حالتها ساءت منذ وفاة الأم وزواج الأب من صبية صغيرة أصبحت وحدها محور اهتمامه، وتلخص "لم يبق لدينا سند في هذه الحياة".
حاولت رهف بكل الوسائل أن تغير نظرتها للحياة التي يسببها مرضها بالاكتئاب. تقول: "اصطحبتها إلى طبيب نفسي قدم لها العديد من النصائح، وأكد على وجوب الاستمرار بأخذ دوائها بانتظام لتخفيف الآلام التي يسببها مرض الاكتئاب الذي تعاني منه".
واليوم تخشى رهف على أختها من تكرار المحاولة، خاصة وأنها دائما تشكو من قلة حيلتها وصبرها على الآلام التي تنتابها باستمرار بسبب مرض القولون، و"حياتها الفارغة" بدون زوج وأولاد بعد أن قلت فرصها بالزواج بسبب كبر سنها.
في النهاية تخلو المنطقة من أية حلول علاجية أو وقائية للانتحار، سوى من حملات ودورات التوعية النفسية ودعم المرأة التي أقامتها منظمات أهلية ومدنية، إضافة إلى بعض محاضرات توعية ودعم نفسي.