خلال السنوات الفائتة لم يدّخر نظام الأسد جهداً لإلحاق أكبر قدرٍ من الأذى بالسوريين، فلم توفر آلة حربه وسيلةً إلا واستعملتها، مما أوقع مئات الآلاف من الشهداء وأعداداً لا تحصى من الجرحى.
لا تتوافر بياناتٌ عن أعداد الإصابات وتوزعها الجغرافي، ولكن يمكن فرزها إلى ما يلي:
1-إصاباتٌ طفيفة: تتراوح بين الكدمات البسيطة والجروح الخفيفة. ولا تتطلب أيّ خبراتٍ طبية، ويمكن علاجها في المنزل، وليس من الضروري تسجيلها.
2-إصاباتٌ متوسطة: تتراوح بين الجروح العميقة إلى الكسور المفتوحة. وتتطلب نقل المصاب إلى مشفى، وأحياناً عملاً جراحياً. تحتاج إلى عنايةٍ طبيةٍ مدرّبةٍ ومتابعةٍ قد تمتدّ إلى عدة أشهر. ويعود المصاب بعد علاجه إلى حالته الطبيعية غالباً، وقد تترك آثاراً دائمةً كالعرج البسيط أو نقص السمع الجزئيّ. وتتوزع بين مناطق الاشتباكات ومناطق قصف الطيران والمدفعية.
3-إصاباتٌ شديدة: وهي الجزء الأخطر من الإصابات. وتتراوح بين إصاباتٍ تؤدي إلى غيبوبةٍ طويلة، كما في إصابات الرأس، أو شلل تامٍّ أو جزئيّ، كما في إصابات الرأس أو العمود الفقريّ. وهنا تبرز المعاناة الحقيقية للمصابين. فالإعاقات، سواءً أكانت كاملة أم جزئية، تشكل تحدياً حقيقياً للمصابين وذويهم وقدرتهم على تقبل هذه الإعاقات والتعايش معها.
لم تفرّق الإعاقات بين عمرٍ وجنس، كما لم تميّز بينهم القذائف. وتقسم إلى عدّة أقسام، أبرزها الإعاقة الناتجة عن فقدان طرفٍ أو أكثر. ويقترب عدد من فقدوا أحد أطرافهم، حسب بعض التقديرات الطبية، من 200 ألف مصاب. ومعظم هؤلاء لم تقدم له عنايةٌ طبيةٌ أو نفسيةٌ لاحقة، لتعذر ذلك في مساحة التوزع والانتشار الكبيرة لهم داخل سورية وخارجها. يحتاج المصاب بهذه الإعاقة إلى معالجةٍ جسديةٍ وأخرى نفسيةٍ تخرجه من حالة التوتر واليأس التي يعيشها لفقدانه جزءاً من جسده.
ورغم المحاولات التي تقوم بها جمعياتٌ وناشطون في الحقل الطبيّ والدعم النفسيّ، إلا أنها تظل في نطاقٍ محدودٍ ومتقطعٍ في غالب الحالات. يروي أبو عبد الرحمن، وهو مقاتلٌ سابقٌ في صفوف الجيش الحرّ، قصة إصابته على جبهة مطار دير الزور، وفقدانه ساقه جراء الإصابة، والآلام النفسية التي قاساها في الأيام والأسابيع الأولى بعد ذلك إلى أن تكيّف مع وضعه الجديد. يتذكر طفلاً فقد يده ويقول مسروراً إنها سبقته إلى الجنة. يعاني أبو عبد الرحمن اليوم، مثل كثيرين ممن فقدوا أطرافاً، من صعوبة الحصول على طرفٍ صناعيٍّ بديل، رغم زياراته الكثيرة لعددٍ من المنظمات والهيئات المختصة، كانت أعذارها واحدةً تقريباً.
يضيف أبو عبد الرحمن: «عندما التحقت بالجيش الحرّ كنت أعلم أنني ربما استشهد في أيّ اشتباك، لكن لم يخطر في بالي أن أعيش بهذه الحالة. لكن الحمد لله على ما كتب لنا». بهذا الإيمان يجابه أبو عبد الرحمن، وكثيرون مثله، إعاقتهم، لكنهم يتطلعون إلى حياةٍ أفضل تعيد لهم الأمل بأن يكونوا أسوياء.
وعند فقدان إحدى العينين تظل الإعاقة مقبولة، وإن كانت الخسارة كبرى بالنسبة إلى من فقدها، لكن الأمر يبقى أفضل من فقد نعمة البصر بالكامل.
وهناك نوعٌ من الإعاقات لا يظهر على الجسد لكنه من أخطر أنواع الإعاقات، وهو الأمراض النفسية التي أصابت الكثير من الناس جرّاء الحالات التي تعرّضوا لها. وتتراوح هذه الإعاقات بين الاكتئاب الدائم، خاصّةً عند من فقدوا أعزاء عليهم، كالأم التي فقدت واحداً أو أكثر من أولادها، أو من شاهد عائلته بأكملها تدفن تحت أنقاض بيته نتيجة برميلٍ متفجرٍ ألقته إحدى طائرات النظام.
الشريحة الأكبر التي تعاني هذا الاضطراب -أو الإعاقات الذهنية إن صح التعبير- هم الأطفال. وقد تنوّعت معاناتهم نتيجة أصوات القصف المستمرّ وأصوات الطائرات ومشاهدة الدمار الشامل لبيوتهم ورؤيتهم مشاهد الموت المتكررة. وتختلف حالاتهم بين العزلة التي تصل إلى درجة التوحد، إذ يصبح الطفل انطوائياً لا يختلط بأقرانه ولا يلعب معهم ويخاف من أيّ صوتٍ مرتفعٍ يظنه صوت طائرةٍ أو قصف، ولذلك تراه يهرع إلى داخل المنزل فور سماعه مثل هذه الأصوات. وهناك حالات الخوف الليليّ والتبول اللاإراديّ، وهي ناتجةٌ عن الهلع الذي عاناه هؤلاء الأطفال من أصوات القصف والقذائف والطائرات، فيعيشون كوابيس مزعجةً تغزو نومهم، ويصابون بنوعٍ من التوتر يجعلهم عدوانيين وانعزاليين.
ربما لا ننتبه إلى هذه الأمراض الآن بسبب تزاحم الأحداث، لكنها تشكل أحد التحديات المهمة لبناء سوريا المستقبل. فالمجتمع الذي يكون أفراده مرضى يبقى مريضاً، وعلى العكس فالمجتمع السليم هو من كان أفراده أصحاء جسدياً ونفسياً.